لا بدَّ أنَّكم تذكرونَ أحد أهم المقولات التَّاريخيَّة في السِّيرة المكرورة والرِّواية المُعادَة لفتح مكَّة، وهي: " من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن.. ومن دخل بيته وأغلق عليه بابه فهو آمن " والعبارة الثَّانية من المقولة وهي: من دخل بيته وأغلق عليه بابه فهو آمن؛ كان ينبغي أنْ تجعل الشَّطر الأوَّل منها " من دخل بيت أبي سفيان " غير ذي قيمة؛ فما الحاجة إلى دخول بيت أبي سفيان إذا كانت غاية الحصول على الأمان تتحقَّق بدخول البيت – كلٌّ إلى بيته، وحيث يُغلق عليه بابَه ؟!.
لكن، لا شك أنَّ الشَّطرة الأولى للمقولة : " من دخل بيت أبي سفيان... " هي من بقيت فاعلة تاريخيَّاً، فيما اختفت مدلولات الشَّطرة الثَّانية، فقد أسست عبارة " من دخل بيت أبي سفيان... " لاستمرارِ واقع التَّمايز الطَّبقي الذي كان قائماً في مكَّة قبل الفتح، والذي انتشر فيما بعد في عموم المجتمع الإسلامي الذي كان في طور التَّشَكُّل في غير مكانٍ من الدُّنيا ولكن على أسس جديدة قائمة على فهمٍ انتقائي وتوظيفٍ ذرائعيٍّ للدِّين الجديد؛ وذلك بواسطة توظيف تلك العبارة لغاية تأكيد التَّميُّز وأحقيَّة قيادة المجتمع على أساس أهميَّة ومكانة الزَّعامة القبليَّة والعشائريَّة؛ وهكذا يُسْهمُ بعض المقولات حمَّالة الأوْجه في تشكيل الوجدان الجمعي للنَّاس والمجتمعات !!.
ولكن، ما صِلَةُ هذه المقدِّمة بعنوان هذا المقال " من دخل بيت الطَّاعة الأمريكي فهو آمن، ومن سار في نفق استمرار البحث عن السَّلام؛ فهو آمن أيضاً ؟! ".. الصِّلة تكمن في تماثل طبيعة وخصيصة الاستخدام والتَّوظيف للعبارات – المُزَرْكَشة – وللمصطلحات والمقولات العائمة، حمَّالة الأوْجُه، وفي طبيعة وطبائع الامتثال الذي لا نقاشَ فيه.
نعم؛ فهكذا دَرَجتْ السياسات الدَّوليَّة والإقليميَّة مسالكَ الامتثال الجُزئي لإرادة الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة في العقود التي أعقبَتْ الحرب العالميَّة الثانية، وصولاً إلى مرحلة تسعينيَّات القرن العشرين المنصرم؛ بحيث تأكَّد الامتثال التَّام للإرادة الأمريكيَّة وتُوِّجَ ذلك بغزو المنطقة بحجة إخراج العراق من الكويت ومن ثمَّ بغزو يوغسلافيا وأفغانستان، ومن ثمَّ احتلال العراق عام 2003. ومن ثمَّ الحرب الأمريكيَّة والأطلسيَّة والعربيَّة في ليبيا وبطوفان الحرب الأمريكيَّة الأطلسيَّة العربيَّة المدمِّرة في سوريا، وعلى سوريا.
الآن ينفعل الحديث والكلام والنِّقاش حول مصطلح " صفقة القرن " وبتقديري لا أهميَّة للمصطلحات وللتسميات، ولا أهميَّة لكل ذلك الانفعال حول المصطلح؛ فجميع المشمولين والمُمْتَثلين في بيت الطَّاعة الأمريكي ينفِّذون مُقتضيات ولادة هذا المصطلح الفاقع منذ أفكار مؤتمر جنيف اليتيم للسلام عام 1974 ومنذ ولادة " كامب ديفد " الأولى، ومنذ ولادة بناتِها وأحفادِها فيما بعد؛ كل ذلك كان في سياق متصل من الامتثال في بيت الطَّاعة الأمريكي؛ لأنَّه كان في اعتقاد الجميع – وما يزال – أنَّ من دخل بيت الطَّاعة الأمريكي؛ فهو آمن.. ومن استمرَّ في السير في نفق البحث عن السَّلام الأمريكي؛ فهو آمن.
في هذا السِّياق – وبغض النَّظر عن التَّفاصيل وأيَّاً كانت الاجتهادات والتَّوُقُّعات – فلن تُجاوز صفقة القرن مفاهيم التسويات القائمة على أساس أفكار مشاريع التَّقاسم الوظيفي، القائمة بدورها على أساس ترسيخ وتأكيد الاعتقاد بأنَّ إسرائيل قد أعادتْ السَّيطرة وبفعل حرب حزيران 67 على أراضٍ تعود لها في الأساس، لكن تُقيمُ عليها جاليات سكَّانيَّة أجنبيَّة من الفلسطينيين – الطَّارئين على الأرض عبر تاريخٍ طويل من الغزوات العربيَّة الأجنبيَّة – وإذْ ذاك؛ فهي بحاجةٍ إلى من يُعفيها – أي إسرائيل – من هموم وتكاليف إدارة أولئك السُّكان، تارةً تحت عنوان الحكم الذَاتي وأخرى تحت عنوان البحث عن تسويات معقولة بما في ذلك من صيغ كونفدراليَّة مُقترحة عائمة في فوضى الخيارات والافتراضات ومجهوليَّة هويَّة الأطراف الكنفدراليَّة المُفتَرَضة ومكانتها وموقعها ووزنها النَّسبي !!.
بالإجمال فإنَّ هذا المصطلح الفاقع – صفقة القرن – وقد قلنا ذلك قبل سنةٍ من الآن: يملك أساساً موضوعيَّاً يمتدُّ حتَّى عمق الامتثال في بيت الطَّاعة الأمريكي بحثاً عن الأمن والأمان السياسي والاقتصادي، وله أطرافٌ كان يُحبو عليها في دنيا النَّاس منذ أكثر من أربعين عاماً على ذات الأساس، لكنَّه الآن يبدو وكأنَّما أصبح مارداً يقومُ ويمشي على ساقَيْنِ مسنودَتَيْنِ بمليارات الدُّولارات – الإشفائيَّة لكثيرٍ من معضلات وأزمات كيانات ودول المنطقة الاقتصاديَّة – وتجري في تلك السَّاقَيْنِ دماءً حارَّة بفعلِ أفكار رجل الأعمال الفذّ الكبير، ذو الأفكار الكبيرة – دونالد ترامب !!.