الأربعاء  27 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

مأساة التفكير في زمن التحريم والتشظي بقلم: ناجح شاهين

"شاعر معروف نشر على صفحته خبراً عن انتصار عظيم حققته عشيرته (حامولته) على أعدائها. بالطبع لم أجرؤ على انتقاص النصر المزعوم، فقد يعلن الشاعر والعشيرة الحرب ضدي."

2018-09-09 10:55:15 AM
مأساة التفكير في زمن التحريم والتشظي
بقلم: ناجح شاهين
ناجح شاهين

بعد كل الذي جرى في فلسطين وسوريا والعراق وليبيا، كنت أظن أن المحرمات جميعاً والمقدسات كلها قد انتهكت بمنتهى الوحشية والوقاحة في وضح النهار وعلى رؤوس الأشهاد. كنت أتوهم أن أحداً لم يعد قادراً على أن يغضب لأي شيء بعد أن تم انتهاك القيم كلها بما فيها قيم الحياة والطفولة والإنسانية والسيادة والأرض...الخ لكنني أفاجأ كل يوم بأن هناك "محرمات" لم أكن متنبهاً لها بما يكفي، وأن هناك من يمكن أن يغضب ل "قضايا" لم أكن أعلم مقدار أهميتها.

كان القمع الرئيس في زمن سابق، على سبيل المثال عندما كتب الراحل عبد الرحمن منيف رواية "شرق المتوسط"، هو قمع الدولة. كانت الدولة العربية في زمن ما تطارد الناس لتعرف ما هي الإذاعة التي يستمعون إليها أو الجريدة التي يقرؤونها. من ذلك مثلاً أن الاستماع ل"صوت العرب" كان تهمة في دول مثل الأردن، والعراق زمن الملكية. ولكن ذلك الزمن قد ذهب إلى غير رجعة. ومن الواضح أن الطريقة الرأسمالية الغربية في إدارة "الهيمنة" قد بدأت تجد طريقها ولو بمقدار قليل في بلادنا. وهكذا أصبح "صدر الدولة" واسعاً إلى حد ما من ناحية تحمل النقد والمخالفة في الرأي.

غير أن المجتمع قد تذرر وتشظى إلى درجة فقدان أية ركائز سياسية أو فكرية أو اجتماعية أو اقتصادية مشتركة على نطاق واسع. وهكذا ازداد عدد المحرمات بشكل هائل يتلاءم مع عدد العشائر والفصائل والطوائف ومراكز القوى والأديان والقوى المانحة...الخ الخ وأصبح من يريد فتح فمه للكلام يتهيب هذه الشظايا و"اللملومات" أكثر مما يخشى السلطة ذاتها.

من ناحية أخرى تخترق الطيف الاجتماعي/السياسي/الفكري الفلسطيني –هل نقول العربي أيضاً؟- فكرة شمولية حول وجود مقدسات لا يجوز المساس بها. وفي حال ارتطام أحدنا بمقدس ما سهواً أو قصداً، فقد يكون يكون الرد المثالي هو النفي/الاقصاء/القتل، وليس الحوار أو المجادلة أو المواجهة بالحجة.

بهذا المعنى نزعم أنه لو كان بقدور الأحزاب، أو الطوائف، أو العشائر...الخ أن تقتل من يمس بمقدساتها لما ترددت لحظة واحدة. هكذا يكون جميعنا داعش "بالقوة" على حد تعبير أرسطو. من هذه الناحية يستطيع القارئ أن يتخيل أن حزباً يتبنى الديمقراطية طريقاً في السياسة والتكفير يمكن أن يقوم بإقصاء فوري لمن يختلف معه في تقديس الديمقراطية. لكن هذا كله قد يكون محتملاً لو أتيح لنا أن نعانق على مستوى الأمة مجموعة من المقدسات التي يتفق عليها الجميع. مثلاً الإيمان بالأمة أو الحرية أو الإسلام ...الخ. المشكلة أن لدينا شيعاً وطوائف وأحزاب ومذاهب ورؤى وأفكار تجعلنا لملومات لا حصر لها تحمل الواناً من المقدسات المتباينة. وهكذا ترفع أية طائفة صغيرة سيفها في وجه بقية الطوائف وتطالب بقتل عناصرها الذين لا يتفقون مع مقدساتها أو يتجرؤون على نقد محرماتها.

منذ أيام:

 أكاديمية فلسطينية، كنت وما زلت أعدها صديقة، كتبت تعليقاً على منشور صغير أشيرُ فيه إلى عدم حاجة المناضل أبوأحمد فؤاد إلى ألقاب عسكرية، تحذرني فيه بغضب واضح من المساس بالمحرمات. قالت الصديقة: "إذا وجد مناضل وثوري فلسطيني يستحق هذه الرتبه العسكريه هو ابو احمد فؤاد الذي عاش وما زال يعيش حياة الثورين الكادحين، وما تقرب المحرمات يا ناجح." لاحظوا قوة التحذير لمجرد أنني قلت إن الرجل ليس في حاجة إلى رتبة لواء، وأن الثوري والمناضل ليسا عضوين في مؤسسة عسكرية نظامية تؤسس الاحترام والتقدير على قاعدة الرتب والنياشين...الخ لكنني على ما يبدو مخطئ، وأنني قد "خبطت في الزرع" دون أن أدري، كما أن علي أن أتحسس موضع أقدامي على ما يبدو بشكل أفضل مما فعلت.

لكن مثلما أشرنا أعلاه حول الشاعر المنتمي لعشيرته، فإن الانتماءات تتعدد إلى درجة يصعب حصرها. وبالمناسبة يمكن للشاعر أعلاه أن يكون متعصباً لعدد آخر من الهويات من قبيل المدينة، والطائفة، والحزب السياسي...الخ وهكذ يمكن أن تشتبك مع شاعرنا بعنف إذا نقدت الأرثوذكس أو الخلايلة أو فتح...الخ.

إذن لقد تراجع قمع الدولة المباشر قليلا. ولكن "طاسة المشروع" الوطني أو القومي ضاعت تماماً، وأصبح هناك فئات لا حصر لها جاهزة لأن تقتل بعضها بعضا، وأن تقف بالمرصاد لأي رأي ينتقص من عظمة كينونتها أو رموزها أو زعمائها أو أفكارها أو أنشطتها.

جربوا مثلاً أن تنتقدوا جوال أو بنك فلسطين أو البنك العربي او الوطنية أو الاتصالات أو سلوك ما لحماس أو الجبهة الديمقراطية...الخ. ممنوع ثم ممنوع ثم ممنوع قطعياً، وقد يستدعي الأمر أن نتقاتل ونسفك الدماء. ومثلما أسلفنا القول فإنه لا يوجد ثوابت قومية محددة متفق عليها يمكن الاستناد إليها لتحديد اتجاه البوصلة أو تحديد القواسم المشتركة للأمة التي توضح الأساسيات التي لا يجوز انتهاكها وإلا وقعنا في المحظوارات القومية. لذلك يبيح أنصار "الحرية الكاملة" كل شيء بما في ذلك التعاون مع العدو، أو التخلي عن أية ضوابط في سياق التعامل معه، أما أنصار المقدسات المتشظية التي لا  حصر لها فيبيحون قتل أي شخص يختلف معهم. نحن في مواجهة ثنائية عدمية مجنونة: إما أن كل شيء مباح أو أن كل شيء ممنوع، هذا هو حالنا في هذه اللحظة التي لا شبيه لها في الأساطير.

الموقف "الحر" يستند إلى شيء يشبه عبارة دوستويفسكي "إذا لم يكن الله موجوداً فكل شيء مباح". وهذا ينطبق أكثر ما ينطبق على التعامل مع إسرائيل. أما أنصار التحريم والتقديس فيشهرون الأسلحة مهما صغرت دائرة القداسة المزعومة.

على سبيل المثال لا الحصر، تعرضت قبل أسابيع لسيل من الشتائم المقذعة وصولاً إلى ما يشبه التكفير والتخوين من مجموعة من معجبي أحد الروائيين الذي وجدوا في انتقادي له مساساً ب "المحرمات" والمقدسات والقامات الكبيرة التي تعلو فوق النقد.

لم يفت الأصوات الغاضبة أن تبين لي بمنتهى الفظاظة أنني لست بقامة المبدع الكبير ...الخ علماً أنني لم أدع يوماً أنني شاعر أو روائي أو أي شيء من ذلك القبيل. وهكذا فأنني لا أزعم لنفسي اية موهبة في المجال الذي برع فيهم صاحبهم، ولذلك لم يكن هناك من داع ليجهدوا أنفسهم في إثبات قصر قامتي جوار  الرجل.  لكن ذلك ليس مهماً من ناحية أساسية، لأن إحدى الطرق التي توظف حالياً في قمع النقد هي ممارسة أغلوطة "الهجوم على الشخص" الشهيرة في المنطق. وهي طريقة تقوم على تجاهل ما يقول صاحب النقد والهجوم عليه شخصياً عن طريق تحقيره وتحقير سيرته وبيان أنه لم يفعل ما يضاهي بطلهم المقدس. طبعاً هذه أغلوطة ساذجة لأن قيام أحدنا بالنقد لا يستدعي أن يكون أطول قامة من أي كان.

في سياق مشابه تعرضت لهجوم عنيف بسبب قراءتي الناقدة لرسالة المناضل أحمد سعدات التي تضمنت موقفه حول الدولة الواحدة. ومرة أخرى تبرع من تبرع لتذكيري بأنني لست مناضلاً من مستوى أبو غسان...الخ ومرة أخرى أسجل برضا وفرح محبتي وتقديري لقامة أبي غسان النضالية التي لا أستطيع بحال أن أتطاول عليها. وهذا لا علاقة له في المقابل بإمكانية أن أكون محقا،ً وأن يكون المناضل الفذ البطل أحمد سعدات مخطئاً فيما ذهب إليه من اقتراحات.

غني عن البيان أنني –مثل غيري- قد واجهت حالات انتقدت فيها بعض السلوك السياسي لحماس أو بعض قادتها، وقد رد علي في حينه الكثير من "الأصدقاء" من جماعة الإسلام السياسي الذين لم يقصروا في بيان أنني مجرد مندس يحاول الإساءة للإسلام، كما قدموا ما "يثبت" أنني لست مناضلاً ولا مفكراً ولا أي شيء يذكر.

بالمناسبة، ليس صعباً على القارئ أن يقدر أن من ذكرتهم جميعاً يقرظون كتابتي و "إبداعاتي" عندما تتفق بشكل أو بآخر مع مصلحتهم أو تقدم طرحاً يعدونه منصفاً لهم.

لكن كما تعلمون فإن كل حزب، وكل عشيرة، وكل طائفة، وكل دين، وكل إقليمية، بل كل فرد مهم بشكل او بآخر يشكلون مقدسات أومحرمات بشكل أو بآخر، بالتالي لا يجور لنا المساس بها أبداً.

ولو أردنا ممارسة النزاهة والعدالة و"عدم الانحياز" لكان علينا أن نمتنع عن ذكر أي "حزب" بسوء، لكي لا نرتطم عرضاً بمقدساته التي يمكن أن نمسها ونجرح "مشاعرها" دون أن نقصد.

إنها حرية الفكر للموتى الذين لا يجدون ما يكفي من القبور. حرية أن تقول أي شيء بعيداً عن الجنس والسياسة والدين والطوائف والعشائر ....الخ المحرم لم يعد ثالثوثاً، لقد تحول على ما يبدو إلى فصيلة "أم اربعة وأربعين".

لكن دعونا على الرغم من شدة سواد اللوحة نغتنم هذه الفرصة للتعبير عن سعادتنا بهذه الوحدة الوطنية الفلسطينية التي تتفق على رفض اي انتقاد يمس المقدسات والمحرمات. إذ من الواضح أن لدينا قاسماً مشتركاً لا بأس به نتفق عليه جميعاً من سلطة إلى اسلاميين إلى يساريين  إلى علمانيين...الخ. إنه اتفاق على ضرورة كبح النقد وكبته ومنع التفكير المختلف أياً كان اتجاهه حتى يظل المركب سائراً في طريقه "الطبيعي" إلى أن يأذن الله أو شعبه المختار أمراً كان مفعولاً.