الحدث- شينخوا
تشعر الفلسطينية جميلة في منتصف الخمسينيات من عمرها بنفسها أكثر تحسنا بالتخلص من تداعيات ما عاشته من مصاعب نفسية حادة خلال الهجوم الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة بفضل تمارين "يوجا" تمارسها يوميا.
وتظهر جميلة بأنها أكثر نشاطا وإشراقا بعد تمرين استمر قرابة الساعة لمساعدتها على التأمل والتركيز والتخلص من أعراض اكتئاب وعصبية عانت منها على مدار الثلاثة أشهر الأخيرة.
ودمرت غارة إسرائيلية منزل عائلة جميلة وأصيبت ابنتها البكر بجروح بعد أن تم إنقاذها بمعجزة من تحت الأنقاض، وهو ما شكل كابوسا ليليا شبه دائم لوالدتها وأثر سلبا بشكل بالغ على أوضاعها النفسية.
وتغرق جميلة في لحظات صمت وتأمل هادئة لدى بدء تلقيها تمرين اليوجا داخل صالة مخصصة في مقر جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في غزة، ثم تتبع المدربة بحركات متتالية للأذرع وتمارين جسدية.
وتقول جميلة عن تجربتها لوكالة أنباء ((شينخوا)) إنها عانت من توتر بالغ على أثر الهجوم الإسرائيلي حيث كانت تنتابها حالات عصبية وشرود ذهني عوضا عن كوابيس ليلية تمنعها من النوم وتصيبها بالخوف والفزع.
وتضيف أنها ولدى بدء تلقي تمارين اليوجا شعرت بنفسها أكثر تحسنا وبجسدها يستعيد رشاقته وحيويته، إضافة إلى أن تحسن في مزاجها العام ساعدها على استعادة تركيزها على حياتها وشؤون عائلتها.
وأكثر ما يسعد جميلة أنها باتت تتمكن أغلب الأوقات من طي أيام العنف الأخيرة وتجاوز التفكير بها، وهو ما شكل لها بداية جديدة في الحياة مفعمة بصحة نفسية من دون أزمات.
وعمدت جمعية الهلال الأحمر إلى إطلاق عشرات الدورات التدريبية لرياضة اليوجا لفئات مختلفة من سكان قطاع غزة على أثر الهجوم الإسرائيلي الذي استمر في الفترة من 8 يوليو وحتى 26 أغسطس الماضيين.
وخلف الهجوم الإسرائيلي أكثر من ألفين و140 قتيلا فلسطينيا وما يزيد عن 10 آلاف جريح، إضافة إلى هدم آلاف المنازل السكنية ودمار هائل في البني التحتية.
وأظهرت تقديرات لمنظمات دولية أن أكثر من ثلثي سكان قطاع غزة البالغ عددهم مليون و750 ألف نسمة بحاجة لدعم نفسي عاجل إثر الهجوم الإسرائيلي الأخير.
وتقول أخصائية العلاج الطبيعي في جمعية الهلال الأحمر مها الشامي ل(شينخوا) إنهم رصدوا معدلات عالية جدا من المتضررين بفعل الهجوم الإسرائيلي من مختلف الفئات ممن هم بحاجة لدعم نفسي متكامل.
وتوضح الشامي التي تتولى تقديم دورات اليوجا، إنهم وجدوا في مثل هذا النوع من التمرين النفسي ملاذا للتخفيف من حدة الصدمات الداخلية لدى المتضررين في ظل ما يوفره من علاج للعقل والجسد.
وتعرف اليوجا على أنها مجموعة من الطقوس الروحية القديمة، وتقوم على "طريقة فنية أو ضوابط محددة من التصوف والزهد والتأمل، مما يرمي إلى خبرة روحية وفهم عميق جدا أو بصيرة في الخبرات".
وهي تعتمد في العلاج على ناحيتين، الأولى فكرية بتعزيز الإيمان وتستدعي المناقشة والتحليل والنقد والتفكير والتطوير دون قيود، والثانية عملية عبر تمارين بدنية والتحكم بالتنفس.
وتقول الشامي إن ما شجعهم على الاعتماد على تمارين اليوجا لمتضرري الهجوم الإسرائيلي هو أنها تعتمد على اتحاد بين الروح والجسد عبر تمارين خفيفة توفر التركيز وصفاء الذهن.
وتشير إلى أن هذا النوع من التمارين يمنح الشخص حالة توازن وراحة نفسية وعقلية وجسدية للتخفيف من الضغط والتوتر وتحقيق توازن أكبر مع الجسد بطرد الترسبات النفسية من شعور بالإرهاق والاكتئاب والفزع.
وتتوزع تمارين اليوجا في مقر جمعية الهلال الأحمر على مدار 10 جلسات تتضمن إلى جانب التمارين المعروفة دعما نفسيا مثل أنشطة تحفيز الذات ومسح الجسد والاهتزاز بالحركة والتنفس المضطرب والتأمل الغذائي.
ويتم التركيز للمتضررين خلال تلك الدورات على مساعدتهم في الرعاية الذاتية عبر إدراك الذات والوعي تجاه أي ضغوطات نفسية وجسدية والتعبير عما بداخلهم والمساعدة على الاندماج والتعايش مع ظروف حياتهم.
وبحسب مديرة مركز صحة المرأة في جمعية الهلال الأحمر في قطاع غزة مريم شقورة، فإن "تتالي الأزمات على سكان القطاع جراء حوادث العنف والحصار فرضت ضرورة تقديم خدمات الإدماج بين أنشطة التفريغ النفسي وإعادة بناء الكيان الداخلي مع زيادة الوعي بجسده".
وتوضح شقورة ل(شينخوا) أن اليوجا تعد بهذا الصدد أفضل وسيلة لتخفيف حدة الضغوط النفسية عبر الحركة والاسترخاء خاصة أن طواقم الجمعية تلقت تدريبا مكثفا بذلك من فريق ايطالي متخصص ضمن مشروع لبرنامج الأمم المتحدة للسكان.
وبشأن التعامل مع متضرري الهجوم الإسرائيلي الأخير، تشير شقورة إلى أنهم يعلمون على تقديم برامج للإرشاد النفسي على صعيد جميع أفراد الأسرة وتنظيم أيام ترفيهية ورحلات ميدانية بغرض إخراج الطاقة السلبية.
كما تشمل برامج الجمعية تقديم دورات للإسعاف النفسي لاحتواء الطاقة السلبية داخل مراكز الإيواء للنازحين بما في ذلك ألعاب تنشيطية هادفة وتفريغ نفسي، بحسب شقورة، التي تؤكد تحقيق نتائج إيجابية على هذا الصعيد.
ويقول متلقون لتلك الدورات إنها ساعدتهم على العودة التدريجية لحياتهم الطبيعية والاندماج الاجتماعي من خلال الاسترخاء ومهارات علاج العقل والجسد للمساعدة في التعبير عن المشاعر والتخلص من الآثار السلبية.
وتزداد هذه النتائج الإيجابية في أوساط متضرري الهجوم الإسرائيلي ممن يعانون من أمراض مزمنة.
وبالنسبة لعبير وهي في نهاية الأربعينات من عمرها، فإنها تشعر كأنها ولدت من جديد بفضل انتظامها على تمارين اليوجا بعد ما عانت من مصاعب نفسية حادة منذ اكتشاف إصابتها بسرطان الثدي قبل عام.
وتقول عبير إن هذه التمارين مكنتها من تجاوز محنة تلقي جرعات العلاج الكيماوي وساعدتها على التخلص من التداعيات السلبية للمرض على نفسيتها عبر تحسين مزاجها العام والتركيز الذهني والتخلص من الإعياء.
وتضيف عبير أنه إلى جانب تحسن وضعها النفسي تجد نفسها أكثر بانتظامها على إرشادات لاختيار الطعام الصحي وإتباع الحمية وتمارين التأمل التي تشعرها بالنشاط والتفاؤل وتخطي حالات القلق والاكتئاب.
ويقول مختصون إن تمارين اليوجا تساعد أصحاب الأمراض المزمنة في تقوية الجسد وتدعيمه بالعلاج النفسي للتركيز على التفاؤل والأمل بالحياة عبر التكيف مع المرض وتفادي آثاره الذهنية.
وبموازاة النتائج الإيجابية لبرامج تمارين اليوجا في قطاع غزة، فإن القائمين عليها يشتكون من نقص في الكادر المختص لتقديمها وصعوبات في التمويل الخارجي خاصة أن جميع تلك الأنشطة تقدم للمتضررين بالمجان.
ويشير هؤلاء إلى أن احتياجات السكان في قطاع غزة لبرامج دعم نفسي شاملة عالية جدا، لا سيما أن الهجوم الإسرائيلي خلف رواسب كبيرة طالت كل فئات المجتمع وهو ما يحتاج إلى مزيد من التركيز من الدعم الخارجي.