الحدث الثقافي ــ محمد بدر
"لأن القضية تعتبر من أكثر القضايا الحساسة في إسرائيل، وتصنّف تحت بند الأمن القومي الإسرائيلي، فإنني اضطررت أن ألجأ إلى طرق ملتوية من خلال مجموعة من الأصدقاء للوصول إلى هذه الوثائق التي تنشر لأول مرة، والتي تتعامل معها إسرائيل كأسرار خطيرة..".
في متحف محمود درويش أطلق الكاتب والسياسي الفلسطيني جورج كرزم من مواليد حيفا كتابه "الهجرة اليهودية المعاكسة ومستقبل الوجود الكولونيالي في فلسطين"، يوم أمس الثلاثاء، ويناقش الكتاب قضية هجرة اليهود من فلسطين باتجاه دول العالم، تاركين ما يصفونه بـ"الوطن الحلم"، رغم أنهم قد جاؤوا إليه بدوافع أيديولوجية بالأساس.
وتظهر أهمية الكتاب في مسألتين رئيسيتين: الأولى: أن الكتاب يناقش فكرة الهجرة المعاكسة على أن إسرائيل "دولة هجرة" وبالتالي فإن تسمين المشروع الاستيطاني يتطلب بشكل مستمر هجرة وافدة، وتفكك الدولة وحقيقتها يكون من خلال الهجرة المعاكسة، والثانية: أن الكتاب يناقش قضية الهجرة المعاكسة كسرّ تحاول إسرائيل إخفاء طبيعته وحقيقته والعوامل التي تؤثر عليه.
ويحاول كرزم في كتابه الاستفادة من الإحصائيات التي حصل عليها عن أعداد اليهود المهاجرين بشكل عكسي، وربطها بالتوقيت السياسي والأمني والاقتصادي؛ في محاولة منه لفهم القوانين الحقيقة التي تتحكم في هذه الهجرة صعودا وهبوطا، ويتوصل الكاتب لحقيقة مفادها؛ أن العامل الأمني هو العامل الأبرز وراء هذه الهجرة، خاصة بعد الانتفاضة الأولى والثانية وعدوان عام 2006 على لبنان وعدوان 2012 و 2014 على قطاع غزة، بالإضافة إلى العامل الاقتصادي والسياسي كعوامل ثانوية.
ويوضح الكتاب أن قصف تل أبيب عام 2012 وعام 2014 من قبل المقاومة الفلسطينية وقبله استهداف حيفا بالصواريخ من قبل المقاومة اللبنانية؛ أفقد الإسرائيلي الشعور بالأمن، مؤكدا على حقيقة أن المقاومة اللبنانية (حزب الله) والمقاومة الفلسطينية استطاعتا أن تخلقا شعورا معاكسا للشعور الذي تحاول إسرائيل تكريسه بأنها "دولة لحماية اليهود"، ووجد المجتمع الاستعماري نفسه أمام أزمة وجودية، مع تزايد الشعور بعدم قدرة الدولة على توفير الأمن لمواطنيها.
وبيّن كرزم في كتابه أن 59% من الإسرائيليين اتجهوا لسفارات دول مختلفة للحصول على جوازات سفر هذه الدول، مبرهنا من خلال هذه الحقيقة على أن شعورا متزايدا ومتناميا لدى الإسرائيلي بأن الدولة الإسرائيلية في طريقها للتفكك، موضحا بأن أغلب المهاجرين يتذرعون بالأوضاع الاقتصادية وذلك رفعا للحرج الذي يصيبهم في حال اعترفوا بأنهم هربوا خوفا من تنامي أدوات المقاومة وفقدانهم للشعور بالأمن.
وأوضح كرزم في كتابه أن هذه الهجرات تشمل خبراء في التكنولوجيا وأطباء وطلبة الدراسات العليا ومثقفي الطبقة الوسطى، مؤكدا على أن غالبية المهاجرين من الطبقة الوسطى. وبالنسبة للذين يصرّون على البقاء في فلسطين؛ يشير كرزم إلى أن أقل نسب الهجرة المعاكسة تقع في أوساط الصهاينة المتدينين واليهود الأصوليين والروس المتعصبين صهيونيا (أتباع ومناصري ليبرمان) واليهود الشرقيين والأثيوبيين؛ وهو ما دفع الباحث زهير الصباغ للاستنتاج بأن هذه الظاهرة ستحوّل إسرائيل من دولة أوروبية الطابع إلى "دولة عالم ثالث"، وبذلك تخلق الهجرة المعاكسة عوامل أخرى للهجرة المعاكسة.
ويشير الكتاب إلى تأثير المفاوضات "العبثية" بين الفلسطينيين والإسرائيليين، على الهجرة المعاكسة، موضحا بأن هذه المفاوضات ساهمت في تسمين المشروع الاستيطاني بشكل كبير في الضفة الغربية، لأنها منحت الوجود الاستعماري شرعية كان يتخوف بعض اليهود من أنه فاقد لها، كما أن المفاوضات منحت اليهود نوعا من الأمان الذي يمكن على أساسه الهجرة لإسرائيل.
ويشكك الكاتب في قدرة إسرائيل على حسم أي حرب قادمة ضد غزة أو لبنان لصالحها، مستندا إلى اعتراف خطير أدلى به رئيس قسم الأبحاث في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "إيتي بارون"، قال فيه: "إن انتصار حزب الله تحقق من خلال الاستنزاف.. إسرائيل لا تستطيع أن تقاتل لفترة طويلة مع الكثير من الإصابات كما كان الحال في المواجهة مع حزب الله عام 2006..".
وبعيدا عن ما وصفها كرزم بـ "التبجحات الإسرائيلية العسكرية المتجذرة في الوعي المشوه لدى السياسيين والعسكريين الإسرائيليين"، فإنه يرى أن المقاومة سواء في لبنان أو فلسطين سيكون لها اليد العليا في أي مواجهة قادمة، لأسباب تتعلق في الجهوزية القتالية للجيش الإسرائيلي، وعدم قدرة الآلة العسكرية الإسرائيلية على "تحييد" بعض أدوات المقاومة كالصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، بالإضافة للعيوب البنيوية والعملياتية الجدية التي لا تزال تعطل جهوزية الجيش الإسرائيلي، في مقابل تركيز المقاومة على استهداف العنصر البشري في الجيش الإسرائيلي كهدف مركزي لها.