لقد استطاع الإنسان أَن يطوِّر مجموعة من الأَدوات والآلات الَّتي تضاعف قدرة الحواسِّ المجرَّدة آلاف المرَّات، فقام بغزو مذهل للواقع، لكنَّه مع ذلك، ما زال يشعر بنقص معرفيٍّ هائل.
إنَّ النَّاظر نحو السَّماء بالعين المجرَّدة سيرى لوحة كونيَّة مذهلة، لكنَّها، في حقيقة الأَمر، لن تكون كذلك حين ننظر إليها عبر تلسكوب هائل، ونخضعها للتَّفكير، والتَّحليل.
سترى لوحة من الماضي، متفاوتة الأَزمان، ستقبض على صور بعض النُّجوم والمجرَّات كما كانت عليه، قبل مئة عام، أَو أَلف، أَو آلاف، أَو أَقلِّ أَو أَكثر، ذلك رهن بموقعها، وبعدها عن كوكب الأَرض، وبعضها قد يكون قد فني منذ عشرات السَّنوات، والثَّابت أَنَّه لن يكون بوسعك رؤية الكون في لحظة "الآن"، بل ستكوِّن فكرة عمَّا كان عليه الكون في لحظة ما....قبل الآن، مع أَنَّ وعيك يملي عليك بأَنَّك تشاهد هذه اللَّوحة في "الآن" وعليك لكي تجابه وعيك، أَن تتسلَّح بمجموعة من النَّظريَّات العلميَّة العقليَّة الَّتي تثبت أَن ما يجري أَمامك لا يجري في "الآن"، وأَنَّه أَصلاً لا يجري ضمن زمن واحد، فبعض ما تراه، مثلاً، جرى منذ عامين، وبعضه منذ مئة عام، وبعضه منذ آلاف الأَعوام، وهكذا.
نحن أَمام لوحة زمنيَّة معقَّدة، أَمام الزَّمن بمفهومه المنفلت، الَّذي يصبح أَبعد من مجرَّد فكرة بسيطة، سهم ما يسير من الخلف إلى الأَمام، كميَّة مطلقة ومتدفقَّة بشكل متساو في الكون.
إنَّ الوعي البشريُّ لا يستطيع أَن يخرج خارج قيود الزَّمن، لا يستطيع أَن يتخيَّل حالة أَزليَّة، أَبديَّة، لا تؤطَّر بالزَّمن، من هنا، قد يبدو مفهوم الخلود مفهوماً عبثيَّاً لا يستطيع وعي الإنسان تخيُّله، ماذا يعني الخلود بالضَّبط؟ ماذا يعني أَن تدخل في حالة اللاّزمن، أَي لا بداية، ولا نهاية، ولا عدَّاد يعدُّ ما يُسمّى بالوقت، وليس هناك ما يُسمَّى المُستقبل، أَو الحاضر، أَو الماضي؟ ماذا ستعني لحظة "الآن" في منظور الخلود؟ هل ستحمل لحظة "الآن" -ونسمِّيها"الآن" تجاوزاً من أَجل إيجاد تسمية مناسبة فقط- منطق المالانهاية الَّذي لا حدود له؟ قد تبدو المسأَلة كما ذكرتُ أَكثر تعقيداً من أَن يستوعبها الوعي البشريُّ.
لقد أَصبحت العلوم تنقسم إلى تخصُّصات فرعيَّة، ضيِّقة، لشدَّة تعقيدها، وعدم قدرة شخص واحد على الإلمام بكلِّ تفاصيلها، وكما ينطبق ذلك على العلوم الطبيعيَّة، ينطبق أَيضاً على كافَّة العلوم الأُخرى، ومنها الدِّينيَّة، وأَقصد الإسلاميَّة بالذَّات، حيث القرآن نصٌّ بلاغيٌّ متعدِّد التأويل، في كثير من آياته، ونصٌّ تاريخيٌّ يروي سيرة الأُمم، ونصٌّ تشريعيٌّ ينظِّم علاقة الإنسان بكلِّ ما يحيط به، ونصٌّ برهانيٌّ يحاول أَن يقدِّم البراهين للمشركين على وجود الخالق، بشتَّى السُّبل، وهو باختصار نصٌّ معرفيٌّ يشمل الكثير من المحاور المعرفيَّة، الَّتي تندرج ضمن تخصُّصات متعدِّدة، ما لا يسمح لمجتهد واحد بتقديم تفسير لهذا النصِّ، وما يدعو بالتَّالي إلى مراجعة كتب التَّفسير باستمرار، وإعادة تنقيحها، والإشارة إلى مكامن الخلل فيها.
فالزَّمن على سبيل المثال، أَحد المفاهيم الواردة في النصِّ القرآنيِّ بصراحة، وهو مفهوم فيزيائيٌّ-فلسفيٌّ ما زال يحيِّر الكثير من المفكِّرين، والعلماء، وسنجد حين نطالع كتب التَّفسير، منْ اجتهد فقدَّم تفسيراً سطحيَّاً، ساذجاً، لا يمتُّ إلى حقيقة مفهوم الزَّمن بصلة لا من قريب، ولا من بعيد، فيه كثير من الجهل، والتَّجهيل، والأَهمُّ، أَنَّ هذا المفهوم، يطرح أَسئلة قد تُعدُّ من أَخطر الأَسئلة في فهم الموروث الدَّيني، والعقيدة، لم يتطرَّق إليها أَحد حسب علمي، وحسب ما اطَّلعتُ عليه، ربَّما جهلاً، وربَّما خوفاً من إثارة أَسئلة محرَّمة، حسب اعتقاد من نصَّبوا أَنفسهم حرَّاساً للدِّين.
ما يجري الآن في عالمنا الإسلاميِّ هو ذاته ما جرى في أَوروبَّا في القرون الوسطى، احتكار المعرفة، والفتوى، ومنح مفاتيح الجنَّة، وصكوك الغفران، حيث كان الكتاب المقدَّس حكراً على الكنيسة الَّتي لم تسمح بتداوله بغير اللُّغة اللاّتينيَّة الَّتي كانت حكراً على رجال الدِّين، حتَّى مجيء مارتن لوثر، أَمَّا في العالم الإسلاميِّ فالتُّهمة جاهزة: من يحاول من غير الدَّائرة الدِّينيَّة المُعترف بها أَن يقدِّم أَيَّة رؤية، أَو تفسير أَو اجتهاد، لمسأَلة بعينها، يُحارب، بحجَّة أَنَّه ليس رجل دين، وغير مؤهَّل لهذا الدَّور، وأَنَّ اجتهاده قد يُسيء، وقد يذهب الأَمر إلى أَبعد من ذلك، إلى افتراض سوء النَّوايا، والتَّكفير، متناسين أَنَّ العلم بالدَّين، لا يشترط أَبداً حتَّى أَن تكون مسلماً، فيمكن لأَيٍّ كان، من أَيَّة ملَّة كانت، أَن يتعمَّق في جانب من جوانب العلوم الدينيَّة، وأَن يبرع فيه، دون أَن يعتنق الدِّين، لأَنَّ الدِّين مكوَّن من نصوص معرفيَّة متعدِّدة كما ذكرتُ آنفاً.
يقول الله تعالى في محكم التَّنزيل:
"تعرجُ الملائكةُ والرُّوحُ إليهِ في يومٍ كان مقدارُهُ خمسينَ أَلفَ سنةٍ"-المعارج/ 4
ويقولُ تعالى:
" يدبِّر الأَمرَ من السِّماءِ إلى الأَرضِ ثُمَّ يُعرجُ إليه في يوم كانَ مِقدارُهُ أَلف سنةٍ ممَّا تَعُدُّون" السَّجدة/5
ويقولُ تعالى:
" وإنَّ يوماً عند ربِّكَ كَأَلفِ سنَةٍ ممَّا تعُدُّون" الحج/47
ثلاث آيات تعبِّر عن المفهوم الفيزيائيِّ النسبيِّ للزَّمن، وعلى الرُّغم من الالتباس بين الآية الأُولى، والثَّانية، وتقديم عشرات الاجتهادات من المفسِّرين للأَمر، إلاّ أَنَّهم لم يقدِّموا تفسيراً علميَّاً ناضجاً حقيقيَّاً مقنعاً، بل ذهب بعضهم إلى تقديم تفسيرات مضحكة، في الوقت الَّذي كان عليهم أَن يصمتوا، ويعلنوا بجملة لا تنتقص من هيبة مجتهد....لا أَعلم.
على كلِّ حال، بعيداً عن هذا الالتباس، سنجد أَنَّ هذه الآيات الثَّلاث تطرح كمَّاً هائلاً من الأَسئلة حول وعي الإنسان بالزَّمن، ومسأَلة الخلود، وسنجد أَنفسنا وجهاً لوجه مع حادثة المعراج، فالزَّمن الأَرضيُّ مختلف عن أَزمان الكواكب الأُخرى، والمجرَّات، والأَكوان، الزَّمن نسبيٌّ، من هنا جاء مفهوم الزَّمكان، الزَّمن بعد رابع للأَبعاد المكانيَّة الثَّلاثة، هذا ما ذهب إليه أَينشتاين ناسفاً مفهوم العالم الَّذي كان قد بُني على مفهوم نيوتن للزَّمن الكوني، وعليه، وبالنَّظر إلى الآيتين أَعلاه، سنجد أَنَّنا نُخضع حركة الرُّوح، والملائكة لمفهومنا نحن للزَّمن، بينما، في حقيقة الأَمر، يحتاج الأَمر من الملائكة والرُّوح-حسب النصِّ القرآني- كلَّ هذه السَّنوات الأَرضيَّة للصُّعود، أَو الهبوط، ما يعني، حسب المفهوم المعروف، أَنَّ روحاً تُقبض تحتاج إلى كلِّ هذه السَّنوات للصُّعود، أَو حسب التَّفسير الآخر، أَنَّ جبريل –عليه السَّلام- يحتاج إلى كلِّ هذه السَّنوات للصُّعود، لأَنَّ المنظومة الإلهيَّة ليست جزءاً من زمننا، بل هي محيطة به، ما سيطرح أَسئلة أَكثر تعقيداً، حول حركة الوحي وانتقاله في الزَّمن، وحادثة المعراج، حيث تمَّ خلق الجسد ضمن شروط بعينها - وهذا ما أُشير إليه ضمناً في الآية الكريمة: "قال ربِّ أَرني أَنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرَّ مكانه فسوف تراني/ الأَعراف 143- وحول مفهوم الزَّمن الإلهي، هل يجوز أَن تخضع الذَّات الإلهيَّة للزَّمن؟ وهل الزَّمن مخلوق؟ وهل يجوز أَن يخضع الخالق للمخلوق؟ وماذا بالنِّسبة للآية الثَّالثة:
" وإنَّ يوماً عند ربِّكَ كَأَلفِ سنَةٍ ممَّا تعُدُّون" الحج/47؟
كلُّ سؤال سيقودنا إلى سؤال...والأَمر بحاجة إلى أَكثر من مقالة بكثير لمناقشته، لكنَّ الثَّابت-إن جاز أَن يكون ثابتاً- هو أَنَّنا بحاجة إلى إعادة التَّفكير في هذا الموروث، وطرح الأَسئلة.
هل تكفي اللُّغة كإطار لاستيعاب الواقع الإلهيِّ الغيبيِّ، والتَّوصيل، أَم إنَّ الأَمر مجرَّد مقاربات؟ وإنَّ المكان هو غير المكان، والزَّمن هو مجرَّد فكرة، واللُّغة مجرَّد حامل فقير؟ والكون كلُّه، مجرَّد نقطة زمكانيَّة انتهت في لحظتها، في الوعي الإلهيِّ، ما سيقودنا إلى مفهوم اللُّغة، والوعي، ويقودنا أَيضاً، من جديد، إلى دائرة محنة خلق القرآن، هل كنَّا على حقٍّ أَم أَنَّنا ضللنا الطَّريق، وما زلنا؟ لماذا أُسدل السِّتار على كثير من الأُمور الَّتي اعتُبرت حقائق، بينما إعادة النَّظر فيها قد يغيِّر الكثير لأَنَّها تحتمل الخطأ؟
ثمَّة محطَّات كُبرى، أَفرزت مسارات بعينها، لا يُراد لأَحد أَن يشكِّك بحقيقتها لأَنَّها ستعيد ترتيب الأَوراق من جديد، ولذلك جُعلت مقدَّسة مع أَنَّها لا تحمل أَيَّة قداسة لأَنَّها من اجتهاد البشر.
من أَجل ذلك يُحرَّم السُّؤال، ويُحارب، ويُقدَّس كثير ممَّا هو غير مقدَّس، وتنصِّب فئة، أَو فئات أَنفسها حرَّاساً للجنَّة دون أَن يكلِّفها أَحد بذلك، وتدَّعي امتلاك حقيقة النصِّ، متناسين أَنَّ النصَّ ذاته يدعو إلى السُّؤال، والبحث، والتفكُّر، والتدبُّر، وأَنَّ الله لم يُعاقب إبراهيم حين جاهر بالطَّلب:
وإذ قال إبراهيمُ ربِّ أَرني كيف تحيي الموتى قالَ أَولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنَّ قلبي قال فخذ أَربعة من الطَّير فصُرهُنَّ إليك ثمَّ اجعل على كلِّ جبلٍ منهنَّ جُزءاً ثمَّ ادعهنَّ يأتينك سعياً واعلم أَنَّ الله عزيز حكيم/البقرة 260
كان ذلك سيِّدنا إبراهيم....وكان المُخاطِب هو الله جلَّ وعلا....
فكيف حُرِّم السُّؤال، ومنْ حرَّمه؟