مفهوم الابتزاز.. والابتزاز العاطفي:
الابتزازُ بشكلٍ عام هو نوعٌ من ممارسةِ الضَّغط والاستغلال من قِبَلِ شخصٍ يمتلِكُ نوعاً من التأثيرِ على شخصٍ آخر ضمنَ منظومةِ علاقَةٍ ما، من زاويةِ وعلى قاعِدَةِ التَّهديد بالحرمان أو المنْع أو استخدام وسائل العقاب المختلفة، أو استغلالاً لشعورِ الحاجةِ لدى طرَفٍ ما إلى الاحتفاظِ بشيءٍ ماديٍّ أو معنوي من قبَلِ طرَفٍ آخر يمتلِكُ القدرة على البذل أو الانتزاع والحرمان .
يَنْزِعُ النَّاس إلى الحرْصِ على الاحتفاظِ بما يمتلكونَ أكثر مِمَّا يحرصونَ على السَّعي إلى امتلاكِ أشياءَ جديدة؛ لذا فهم مستَعِدونَ لممارَسَةِ سلوكٍ اجتماعيٍّ أو عاطفيٍّ أو استهلاكي ما مَدْفوعينَ بدافع الحرصِ على ما يمتلكون من علاقاتٍ اجتماعيَّة أو عاطفيَّة، أو سِلَعٍ أو مقتنياتٍ أو علاقاتِ عمل.
في الدَّائرة الأسريَّة أو في بيئةِ العمل، أو في الحياة الاجتماعيَّة بشكلٍ عام، ثمَّة أشخاصٌ في حياتنا نعملُ جاهدين على إرضائهم، منهم الأخ أو الأخت أو الزَّوج أو الزَّوجة أو ربِّ العمل أو صاحِب سلطةٍ ما، وذلك لأسبابٍ متعدِّدة، منها العاطفيُّ ومنها ما يتَّصِل بضرورات العلاقات الشَّخصيَّة والعامَّة، ومنها كذلك عدم رغبتنا في الإساءَةِ إلى العلاقةِ التي تربطنا بهم، أو لامتلاكِهم نوعاً من النُّفوذ المادِّي أو العاطفي أو الوجداني أو المعياري – والنُّفوذ المعياري هو ذلك النَّوع من النُّفوذ الذي يكتسبه بعض الأفراد من ذوي المكانة الاجتماعيَّة أو الدِّينيَّة أو السياسية أو الاقتصاديَّة أو الماليَّة على نحوٍ ما ولدى مجموعةٍ ما أو لدى الأفراد في ظروفٍ ما – وفي محاولتنا لإرضائهم نقعُ ضحيَّةَ التمزُّق ما بين رغباتنا وقناعاتِنا وضروراتِنا الشَّخصيَّة، وما بينَ إرضائهم على حسابِ راحَتِنا النَّفسيَّة، أو حتِّى الجسديَّة.
من هنا فإنَّ مفهوم الابتزاز العاطفي وتطبيقاتِه لا يقتصرانِ على جانبِ العاقات العاطفيَّة بين المرأة والرَّجل على سبيل المثال، بل يتعدَّى ذلك إلى ما قد أشرنا إليه، ضمن مروَحَةٍ واسعة من العلائق الاجتماعيَّة والإنسانيَّة.
فعلى سبيلِ المثال: يستَخْدِمُ العاملونَ في مجالِ الدِّعايةِ والتَّسويق مفهوم النُدْرة؛ لجذبِ أكبر عدَدٍ من المستهلكين؛ فهم يُرَكِّزونَ دعايتهم وإعلاناتِهم على نُدْرَةِ السِّلعة أو محدوديَّةِ الكمِّيَّاتِ المتَوَفِّرَةِ منها؛ مِمَّا يدْفَعُ بقطاعِ المُسْتَهْلِكينَ إلى السَّعي إلى امتلاكِ تلك السِّلَعِ أو الأشياءِ انطلاقاً من إحدى مظاهر الحرص على الاحتفاظِ بإمكانيَّةِ امتلاك الأشياء والخوف من فقدِ فرصةِ امتلاكِها.
ومن هنا يُمكننا القول: إنَّ هذا المثال يُعتَبَرُ كإحدى مظاهر الابتزاز العاطفي؛ لأنَّهُ يُحاولُ استغلال مشاعر الحرص والخوف من الفَقْدِ لدى قطاعات المستهلكينَ للسِّلَع أو الخدمات، مُسْتَغِلَّاً مشاعِرَهُم.
ويستَخدِمُ المديرونَ وأربابِ العمل نفوذهم وسلطَتَهُم والوسائل الَّتي يمتلكونها في سبيلِ حملِ الآخرين على التَّعبيرِ عن مشاعر التَّفَهُّم لسلوكِهم أو الإعجاب بشخصيَّاتهم او إطرائها وإطراء ما يفعلون أو ما يصدر عنهم من مواقف.
ويستخدِمُ الرَّجل والمرأة آليَّة الابتزاز العاطفي في المناخ السَّيْكولوجي والانفعالي لطبيعة العلاقة التي تربطهما بِبَعْضِهما، وذلك في نطاقِ العلاقات العاطفيَّة الحميميَّة المجرَّدة – كتبادل مشاعر الاهتمام والحُبْ - أو في نطاقِ العلاقات الجنسيَّة، أو في نطاق العلاقة في بيئة الأعمال في المؤسَّسات أو الشركات أو أماكن العمل المشتركة أو في الأسواق، أو حتَّى في جوِّ العلاقة ضمن البيئة الأُسَرِيَّة المُشتَرَكة.
وبالإجمال: فإنَّ استخدام آليَّة الابتزازِ العاطفيّ بتجلِّياتِها ومظاهرها المختلفة، هو نقيضُ التَّوازن، ونقيض ضرورة تحقيق معايير التَّقدير والاحترام في العلاقات الإنسانيَّة.، وهو إحدى مظاهر الاستغلال لظروف الآخرين النفسيَّة والشعوريَّة والماديَّة، وإحدى وسائل التأثر السَّلبي الفعَّال على اتجاهاتِهم الدَّاخليَّة وعلى سلوكِهم الاجتماعي والعاطفي بما يُناقض رغباتهم وحاجاتهم الحقيقيَّة، وقناعاتِهم الدَّاخليَّة؛ وهو ما يؤدِّي إلى الشُّعورِ بالكبت والتمزُّق والتناقض داخل الشَّخصيَّة، ويتجلَّى في ممارسةِ سلوكٍ تظاهُريٍّ مُناقِض لطبيعة الشُّعور الدَّاخلي المجرَّد تجاه الأشخاص أو الظَّواهر أو المواقف.
* الابتـزازُ الـعاطـفــي... داخِـلُ عَقْـلِ المُـبْـتَـزّ !!.
يمكننا – إذّنْ وبناءً على ما تقدَّم - تلخيصُ مفهوم الابتزاز العاطفي، والصِفَةُ الأبرَزُ للمبتَزُّ عاطفيَّاً في تهديدٍ واحدٍ أَساسيٍّ هو:
" إذا لمْ تَفعل ما أرغَبُ بهِ وما أُريدُكَ أَنْ تفعله؛ فسوفَ أًجعلك تعاني وتَتَعذَّب أو تَتَألَّم !!".
إنَّهُم يُدْخِلوننا في حالَةٍ من الحَمِيميَّةِ المريحةِ عندما يُريدون مِنَّا شيئاً، ولكنَّهُم كثيراً ما يُهَدِّدوننا حتَّى يحصلوا على ما يُريدونه، ويغمروننا بإحساسٍ بالذَّنبِ ولوْمِ الذَّات عندما يريدون !!.
هذه – إذّنْ - أبرزُ صِفَةٍ في شخصيَّةِ مُمارسِ الابتزاز العاطفي، تقولُ – د. سوزان فوروارد – في كتابها الَّذي حملَ ذات العنوان. ثمَّ تُضيف:
" يَخْلِقُ مُمارس الابتزاز العاطفي مشاعر الخوف، والالتزام، والشُّعور بالذَّنبِ لدى ضحيَّته، وهو ما يُصَعِّبُ على الضحيَّة أحياناَ معرفة كيف ينبغي له أَنْ يُعامِلَهُ، فعندما يُوجد لَدَيْنا الخوفُ والإحساس بالذَّنب؛ فكثيراً ما نشعرُ بأَنَّنا نحنُ المشكلة، وليس من يُحاوِلُ ابتزازَنا ".
وتضيفُ فورْوَارْد: " إذا مارسَ عليكَ أحدٌ ما، إحدى السُّلوكيَّات التالية، فاحذر من أنْ تقعَ ضحيَّةً للإبتزازِ العاطفي:
إلى هنا كلام " د. سوزان فورْوَارْد " فيما
يخضَعُ الشَّخص المرشَّح للوقوع ضحيَّةً للابتزاز تحتَ ضغوط طبيعة العلاقة المُعقَّدة التي تربطه بِمُبْتَزِّه، وضمنَ مُعادَلَةِ قدرة المُبْتَز على ممارسة الضُّغوط، وامتلاكه لآليَّات ذلك ووسائله من جانب، ومدى القدرة على إبطالِ مفعول تلك الضُّغوط مقاومتها لدى الضَّحيَّة من جانبٍ آخر؛ فكُلَّما ازدادَ المرءُ مُقاوَمَةً لطلباتِ ممارس الابتزاز العاطفي؛ زادَ الأخيرُ فيما يضخُّه لدى ضحيَّتِهِ من خوف، وزادَ فيما يُطالبه بِهِ من التزامٍ تجاهه وتجاه العلاقة معه، وزادَ من تعميقِ الإحساس بالذَّنْبِ لديه في إطارِ علاقته به؛ مِمَّا يجعل المرء الخاضع للإبتزاز مُرتَبِكاً ومُستاءً مِنْ الجوِّ الَّذي تفرضه الضغوط عليه، وربما يشعرُ أنَّه فاقدٌ لخياراته. وربما يبقى مُفْتَقِراً للقدرَةِ على القيامِ بفعلٍ حاسِمٍ تجاهَ مُبْتَزِّه، لدرجَةِ أنَّهُ يشُكُّ أصلاً في كونِهِ أنَّ لَهُ مُبرِّراتِه في عدَمِ التَّجاوب مع طلباتِ ورغبات مُمارس الابتزاز.
لكنْ، وبكلِّ الأحوال لا ينبغي مُطلقاً الاستسلام لرغباتِ ومطالبات مُمارِس الابتزاز، الَّتي تستندُ على قاعدَة الإلحاح والتكرار، والبديل عن ذلك هو الإصرار على الحق في حريَّة القرار والخيار الشخصي، والإصرار على الحقِّ في استقلال الشَّخصيَّة، وفي رسم حدودٍ واضحة المعالم ما بين حدود العلاقة وضروراتها وواجِباتِها المُتبادلة في الحدِّ الأدنى من شروطِ التكافؤ على الأقل، وبين حرية الخيار والقرار الشخصي، مع مراعاة الواجبات والضرورات، فثمَّةَ فرقٌ بينَ الاستسلامِ للرَّغبات والإذعانِ للمطالبات وبينَ التَّفَهُّم والتفاهم والاحترام، والتوازن في العلاقات الشخصيَّة أو الأُسَرِيَّةِ أو العاطفيَّة أو الرَّسميَّة.
وبالعودَةِ إلى " فورْوَاردْ " وما تقدِّمه من شرحٍ لهذا الموضوع في كتابها المُهِم، فهي تحدِّدُ ستُّ خُطواتٍ مُتَقَابِلَةٍ ومُتَبادَلَةٍ ومُتَفَاعِلَةٍ لعمليَّةِ وآلية الإبتزاز العاطفي، وكيفَ تجري، وهي كالتَّالي:
من هنا ومن هذا العرض الَّذي تقدمه " فورْوارد " يتضِحُ لنا وكما أسلفنا سابقاً، أنَّ أخطر ما في مراحل الابتزاز هو الإذعان ابتداءً ومن ثمَّ الاستسلام التَّام لرغبات ومطالبات المُبْتَزْ المُتكرِّرة والمُتَجَدِّدة.
فهناكَ فرقٌ بين الصِّراعات والمجادلات المألوفة، والتَّفاهمات والتنازلات الطَّبيعيَّة المتوازنة في معظم العلاقات، وبينَ نمطِ التَّلاعب بالمشاعر على قاعِدَةِ استغلال العلاقات بمختلف أنواعها، وخصوصاً العلاقات العاطفيَّة.
فالتَّلاعب هدفه هو تهميش قوَّة طرف لحساب زيادة قوَّة الطَّرف الآخر، تقول فورْوَارْد: " إنَّهُ حتَّى الاختلافات القويَّة للغاية، ليسَ من الضَّروريِّ أنْ تتضمَّنَ إهاناتٍ شخصيَّةٍ للطَّرفِ الآخر؛ لانَّ الصِّراعات الصحيَّة لا تتضمَّنُ أَبداً هزيمة الطَّرف الآخر عاطفيَّاً أو انفعاليَّاً ".
ونَقْتَبِسُ هنا ما كتَبَتْهُ " د. سوزان فُورْوَارْد " في كتابِها، تحتَ عنوان ( داخل عقل المُبتَز العاطفي ) حيثُ تقول:
( لماذا يهتم المُبْتَزُّ بالحصولِ على ما يريد حتى لو بلغ به الأمر معاقبة الضحية إنْ لم يستجب له ؟!
إنَّ المُبْتَزَّ عادة قد يكون شخصا ً محبطا ً يشعر بأن عليه القيام بِفِعْلٍ حادٍّ قويٍّ ليحصل على ما يعتبره مهما ً بالنسبة له . و يُذْهِلُ الُمُبتزُّ شركاءَهُ بصورة مفاجئة ، حيث تَحِلُّ القرارات المتصلبة محل التفاوض الطبيعي في العلاقات الحميمة.
والناس المُتَشبِّثون، أو الغاضبون أو من يحبون اختبارنا بصورة دائمة، يُحِبُّون هذا؛ لأن هذا الأسلوب قد لجأوا إليه لحماية أنفسهم من احتمال الفقد أو الخسارة . ورغم أننا نشعر بأننا نفعل شيئأً خطأً ؛ فإن الاحتمال الأكبر هو أن تعود المشاكل القديمة لدى المبتزين لتؤثر سلبا على العلاقة الحالية .
ويشعر المبتز من خلال عقابه للضحية بأنه يحافظ على النظام أو يلقنه درسا ً، ويشعره موقفه المُتَصَلِّب بالرِّضا عن نفسه . و مع ذلك ، فدائماً ما يكون لِعقابه لضحيته عواقب لم يكن ينويها، أو يحقق أهدافه من خلالها ؛ فبدلا ً من أن ينصاع الضحية له فإنه يستاء من الموقف بكامله و ينسحب منه .
وتأتي معظم صور الابتزاز في صورة احتياج أو امتلاك ، فإذا قرَّرَ زوجٌ القيامَ بَرِحْلَةِ عَمَلٍ أو قرَّرَ الالتحاق بدورة تعليمية بالعطلة الأسبوعية ؛ فإنَّ زوجه يشعره بالذنب بأن يوضح له مدى شعوره بالوحدة و الإكتئاب أثناء غيابه ؛ و الطبيعي أن يتعاطف الزَّوج الضحية مع زوجه و لكن هذا التعاطف يؤدي إلى زيادة السلوك المناور المتلاعب ؛ و حتى نظلَّ أصحاءٌ فعلينا أن نوضح الحدود ، و نعرف أنَّ ما نريد فعله طبيعي تماما ً، و أن طلبات شركائنا غير مبررة حتى إذا كان من الواضح أنها ناتجة عن الحُبْ .
وهناك أنواعٌ عديدة من الابتزاز العاطفي حيث يصدر عن بعض النَّاس تهديدات عدوانية ، في حين يوضح آخرون في هدوءٍ ما سيحدث نتيجة عدم حصولهم على ما يريدون ويلجأَ آخرون إلى المعاملة والتَّعبير بالصَّمت ؛ حتى يعرف الضَّحايا ما يريدونه ، ثم يقدمونه إليهم في سعي محموم لإعادة تأسيس علاقات طبيعية .
إنه كلما ازدادت حميميَّة العلاقة ؛ ازداد ضعف الضَّحية فيها أمام المبتز. يجد الكثيرون منا صعوبة في التصدي للتهديد خاصة إذا تضمن عقوبات مالية أو الطَّلاق ، أو مواجهة خطر كبير أو حتى الاعتداء البدني .
و على مستوى خفي، فَمَنْ مِنَّا يجد سهولةً في رفضِ طلب يأتي في صورة سؤال توسلي ، مثل : " ألا تحبني ؟! " .
إنَّ فتاةً في مرحلة النَّقاهة من علاجِ تعاطي الشَّراب تعرفُ أنَّها تستطيع أنْ تحصلَ من والدتها على قرض لشراءِ منزل و ذلك لتوافر التهديد: "إن لم تفعلي ؛ فسوف أعودُ إلى ما كُنْتُ فيه من تعاطي الشَّراب".
تطلب مِنَّا "فوروارد" أنْ نتذكرَ أنَّ الابتزاز العاطفي يبدو كما لو كُنْتَ أنت محوره و تشعر بأنك أنت محوره ولكنه غالبا ما لا تكون أنت محوره بأيِّ حال ؛ بل أنَّه ينبع من محاولة إحداث توازن في المشاعر النَّاتجة عن إحساسٍ بعدم الأمان لدى ممارس الابتزاز ).
المصدر: توم باتْلَرْ – باوْدِنْ - أهم خمسون كتاب في علم النَّفس ص 114، 115– منشورات مكتبة جرير الطبعة الأولى 2012.
وبِذا – يمكننا القول: إنَّ أُولى خُطوات مواجهة الابتزاز العاطفي، تكْمُنُ في فهم جوهره ومعرفة أسبابه، وتقدير الظُّروف الَّتي يجري فيها، وقبل كلِّ ذلك فهم وقراءَة دوافع مُمَارِسي الابتزاز؛ وقد كان هذا ما هَدَفنا إلى توضيح بعض جوانبه من خلال هذا المقال.