الحدث ــ محمد بدر
في العصور القديمة، اكتشف البشر آثار المواد ذات التأثير النفساني الموجودة في الطبيعة والتي كانت تستخدم للتهدئة وتخفيف الألم، وفي الاحتفالات الدينية ومن أجل المتعة. تدريجيا، تكاثفت الاكتشفات في هذا المجال. في آسيا، تم اكتشاف تأثير أفيون الخشخاش في تغييب الوعي، وفي أمريكا الشمالية تم اكتشاف التبغ وفي أمريكا الجنوبية أوراق الكوكا، وقد اكتشفت الهند تأثير تدخين تبغ الحشيش.
وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان تعاطي المخدرات شائعاً بين الطبقات العليا في الولايات المتحدة؛ وخاصة بين السيدات. وحتى عام 1914 ، كانت المخدرات بكافة أنواعها متوفرة في المنازل والصيدليات.
ومع الاكتشافات الطبية التي أثبتت ضرر المخدرات على جسم الإنسان، وتهديد المخدرات لحياته وعلاقاته، بدأت دول العالم تسن التشريعات التي تجرّم المخدرات تعاطيا وتجارة. وللحقيقة والتاريخ فإن بداية التجريم كانت لحماية الطبقة الوسطى، وبالتالي فإن التركيز على حظر هذه المواد لم يشمل طبقات أخرى، على الأقل في المجتمع الأمريكي.
في عام 1946 أدرجت الأمم المتحدة المخدرات ضمن "السلوك الإجرامي"، وفي عام 1971 تم التوقيع على اتفاقية الحظر الدولي على استخدام المؤثرات العقلية، بالإضافة إلى الأدوية المشتقة من القنب والأفيون. وفي عام 1988 تم التوقيع على اتفاقية بشأن حظر الاتجار بالمخدرات والمواد الخطرة المؤثرة على العقل، وتم التصديق على هذه المعاهدات من قبل عدد كبير من الدول.
ما يهمنا من هذا السرد التاريخي لتجريم المخدرات؛ هو الانتقال إلى خصوصية أن "إسرائيل" أقرّت القانون الخاص بالمخدرات في عام 1973، وفي تفصيلات القانون الإسرائيلي فإن هناك تجريم مضاعف زراعة المخدرات وتجارتها وقد تصل عقوبة الزراعة والتجارة إلى السجن 20 سنة، بينما تصل العقوبة القصوى للاستخدام الشخصي 3 سنوات شرط أن يقنع المحكمة بأن الكمية التي ضبطت بحوزته للاستخدام الشخصي، وتنظر المحكمة في كمية المادة المضبوطة وبناء على ذلك تقرر إذا ما كانت للاستخدام الشخصي أم لا.
في السنوات الأخيرة، شددت الشرطة الإسرائيلية من ملاحقتها لتجار المخدرات في "إسرائيل"، وذلك بعد أن وصلت الظاهرة إلى حد مقلق، تسربت المخدرات بنسب عالية للجيش (حوالي 40% من الجنود تعاطوا المخدرات لو لمرة واحدة كما تشير آخر إحصائية)، بالإضافة لتزايد نسب التعاطي في المدارس وتشير المعدلات والنسب إلى تزايد نسب التعاطي في المدارس، والمخيف أكثر بالنسبة للإسرائيليين هو تزايد نسبة الطلبة الراغبين في التعاطي.
لا ينظر الإسرائيليون للمخدرات كجريمة بحدّ ذاتها تنحصر في ذاتها، كأي جريمة قتل أو سرقة .. الخ. لكنهم ينظرون للمخدرات كجريمة تؤسس لواقع من الإجرام يتمثل بخلق أسباب لجرائم أخرى. وأثبتت الدراسات الإسرائيلية في هذا الخصوص، وخاصة في السنوات الخمس الأخيرة؛ بأن المخدرات تسبب بعمليات قتل وأن نسب عمليات القتل التي كانت المخدرات عاملا مؤثرا فيها قد تزايدت، وينطبق ذلك على عمليات السرقة والاختطاف وغيرها من الجرائم. من هنا أدركت المؤسسة الإسرائيلية ضرورة التشديد في تطبيق العقوبات القصوى ضد تجار المخدرات ومروجيها، وأصبحت قرارت المشرّع الإسرائيلي أكثر تشديدا في كل ما يخصّ المخدرات.
هذه الحالة من التشديد، دفعت تجار المخدرات في "إسرائيل" لنقل موطن الجريمة الأساسي إلى مكان آخر، وهنا تبدل دور تجار المخدرات في الضفة الغربية؛ من مستهلكين ووكلاء، إلى زارعين للمخدرات بالوكالة، وتحولت الضفة من سوق للتجارة إلى أرض خصبة للزراعة والاستنبات..
في إحدى القضايا في منطقة رام الله، اعترف المعتقلون لدى الأجهزة الأمنية الفلسطينية أن المسؤول عن المستنبت إسرائيلي وأنه المسؤول الرئيسي وغير المباشر عن المستنبت، كما أن تجار المخدرات من اليهود بدأوا يلجأون لحملة الهوية الزرقاء من الفلسطينيين للقيام بهذه المهمة (الزراعة)؛ خاصة وأن القانون الفلسطيني لا يستطيع معاقبتهم.
إن ما يحدث في الضفة الغربية وزيادة معدل المستنبتات والأشتال التي تضبط، يعكس تزايد القوة القضائية والشرطية الإسرائيلية في محاربة هذه الظاهرة، وهروبها لمناطق الضفة الغربية وبشكل كبير إلى مناطق C، وهو ما يستدعي معالجة بنفس الأدوات؛ أي تشديد العقوبات في قضايا المخدرات، حتى لا تتحول الضفة الغربية إلى بيئة جاذبة لهذا النوع من الجريمة. ويظهر بوضوح أن الاحتلال وبطريقة غير مباشرة قد حوّل الضفة الغربية لـ"أرض الحشيش". فماذا عن محاولاته المباشرة!
إذا كانت المخدرات جريمة ملهمة لكثير من الجرائم، فإن السياسة تستثمر بكل ما يمكنها الاستثمار به بما يشمل الجريمة. تاريخيا، استخدمت المخدرات من قبل بعض الإدارات الأمريكية لمحاربة الحركات الاحتجاجية التي كان يقودها اليساريون والسود، حتى وصل التنميط بأن اليساري صديق الماريجوانا والأسود صديق الهيروين.
وإذا كان هدف الإدارات الأمريكية قتل الروح الاحتجاجية بالمخدرات، فإن أهداف "إسرائيل" لا تختلف شيئا، فالمعركة بين الفلسطينيين و"إسرائيل" شاملة وقد ساهمت الأخيرة في شيوع هذه الظاهرة في الواقع الفلسطيني، من أجل تحييد الجيل الفلسطيني عن قضيته الرئيسية. وتركز "إسرائيل" في تغذية هذه الظاهرة في مناطق القدس المحتلة والداخل المحتل والقرى والبلدات الحدودية في الضفة الغربية، ولأنها تعلم أن المخدرات لا ينحصر ضررها في ذاتها، بل يمتد لطبيعة العلاقات الاجتماعية، فإنها تستثمر بها كأداة من أدوات الحرب؛ لدرجة أن بعض المقدسيين كشفوا عمليات توزيع للمخدرات تتم من خلال رجال أمن إسرائيليين.