الأربعاء  27 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

إعصار أمريكا يلفظ أنفاسه وهو يدمر الحقوق العربية ناجح شاهين

2018-09-16 11:50:52 AM
إعصار أمريكا يلفظ أنفاسه وهو يدمر الحقوق العربية 
ناجح شاهين
ناجح شاهين

إنه زمن السفور. لسنا متأكدين أن هناك أية حاجة إلى التضليل، أو إلى أدوات جاك دريدا أو ميشيل فوكو من أجل قراءة شاقة تحفر عميقاً في جينالوجيا السياسة الأمريكية.

في هذه اللحظة الخطابية الساطعة كما شمس تموز في مكة أو أبوظبي أو البصرة، تتبوأ محافظة إدلب المكانة الأهم على صعيد الاهتمام "العالمي" والعربي. ويعود ذلك إلى أن حماية المدنيين الأبرياء في تلك المحافظة يشكل الهاجس الأول للولايات المتحدة وقائدها الحساس للقضايا الإنسانية دونالد ترامب.

لهذا السبب لا يبدو واضحاً لدى التلفاز الصيني على سبيل المثال أن فلسطين تشكل مأساة كبرى من النواحي المختلفة، أو أن اليمن يموت حرفياً على نحو مفزع. القيادة الأمريكية ليست مقتنعة بأن هناك تراجيديا كاملة في هذه اللحظة باستثناء محافظة إدلب.

قد يتوهم  بعض البسطاء أن تركيا أو قطر أو السعودية أو الإخوان المسلمين...الخ هم من يضعون إدلب في بؤرة الحدث. إن هذا وهم لا سند له من الواقع، لأن قطر والسعودية والإمارات وأوروبا وتركيا...الخ يمكن أن تنخرط جميعاً في نشيج متصل يقطع أنياط القلب بسبب مأساة اليمن التي تدمي القلوب المتحجرة. يلزم فقط أن يقرر البيت الأبيض وضع الضحايا اليمنيين تحت دائرة الضوء.

بالطبع لسنا نزعم هنا أن  الولايات المتحدة قدر لا يمكن مغافلته والنجاة منه أبداً. على العكس من ذلك، فقد هزمت أمريكا في فيتنام وهي في أوج هيمنتها المطلقة على العالم. وهي الآن أبعد ما تكون عن الانفراد المريح بالهيمنة. ومن الواضح أن تراجعها المذهل عن العولمة لتتجه نحو الحمائية هو دليل ساطع على أنها قد فقدت الكثير من نقاط قوتها.

قبل عقد من الزمن كان من السخف أن نقول إن أحداً سوف يوقف تيار العولمة الجارف المنطلق في اتجاهه لا يلوي على شيء. كانت حركة الأموال والبضائع تنتقل حول  العالم في يسر تام دون أن "يتمكن" أحد من مراقبتها، أو هكذا اعتقد أساتذة مدرستي "شيكاغو" و"وارتون سكول" العظميين. لكن الحقيقة التي نعرفها اليوم بدون الحاجة إلى إعمال النظر والتفكير هي أن أمريكا هي التي صنعت الحريات المطلقة لدوران المال والسلع حول الكرة الأرضية مع إبقاء حركة العمل تحت الرقابة الصارمة. لكن ذلك كله ودعنا وذهب في حال سبيله بدءاً من العام 2008 لينقلب السحر على الساحر.

اليوم أصبحت الصين هي من يربح من وجود القوانين التي فرضتها أمريكا على العالم طوعاً أو كرهاً، ولذلك تقرر أمريكا إلغاء تلك القوانين بجرة قلم، وتتجه نحو الحمائية البغيضة التي كاد بيل كلينيتون من أجلها أن يذهب إلى محاربة ماليزيا التي راقبت الأسواق، وانتهكت "الحريات" المقدسة لانتقال المال والبضاعة.

لكن تراجع واشنطون في ميدان الاقتصاد لا يرافقه أي ضعف في مكانتها العسكرية التي تستغلها في فرض هيبتها وإرادتها على الحلفاء والأعداء على حد سواء. وإلا كيف نقرأ قيام دولة مثل إسبانيا بتقديم 400 قذيفة ذكية موجهة بالليزر إلى السعودية لتقتل أطفال اليمن؟ وفي الوقت نفسه تغضب إسبانيا مثلها مثل فرنسا وكندا وإسرائيل ...الخ من جرائم حزب الله والدولة السورية ضد المدنيين، خصوصاً حزب الله صاحب التاريخ المرعب في قتل المدنيين بحسب ما تخبرنا تل أبيب وراعيتها واشنطون. انسجاماً مع ذلك فإن إسبانيا لا ترى المسلحين الذين يقاتلون الدولة  السورية وسكانها الذين لا يدينون بدين العصابات فيستحقون الذبح بحد السكين. لكننا لن نلوم إسبانيا، فذلك ليس ذنبها لأنها في الواقع عمياء، وهي تبصر العالم بفضل العيون الأمريكية فحسب. بالطبع إسبانيا مجرد مثال قد لا يكون مقززاً بمقدار المثال السويدي الذي يطبل بأعلى صوت ممكن ضد سوريا وحزب الله، ولا يرى إبادة اليمن أو اقتلاع فلسطين وتهجير سكانها جميعاً حتى آخر جنين ما يزال في رحم أمه.

تحاول روسيا أن تدافع عن أمنها المنزلي فقط لا غير. تكتفي بالمقاومة في القرم وسوريا، لكن ذلك يكلفها العقوبات الاقتصادية الأمريكية. وتئن روسيا على الرغم من تظاهرها بالتحدي. وفي الأيام الأخيرة بدا المشهد مثيراً للشفقة عندما وقف لافروف ليقسم أيماناً مغلظة بأن روسيا والدولة السورية لا ينويان مهاجمة إدلب. لقد اضطرت موسكو أمام التحذيرات الحاسمة لواشنطون وأنقرة وتل أبيب وباريس ولندن...الخ أن تتراجع إلى حد التبرؤ التام من أية نوايا لمهاجمة محافظة إدلب الواقعة على ما يبدو في الأراضي الأمريكية بجوار كارولاينا الشمالية التي ضربها الإعصار. الوجود الأمريكي في سوريا مثله مثل التركي والإنجليزي والفرنسي والعمل الإسرائيلي النشط هناك...الخ كله مشروع ولا اعتراض عليه. إنما الدولة السورية وحلفاؤها من يعتذر عن وجوده بالجوار ويقسم الأيمان المغلظة أنه لا يريد شراً بالقوة التي تحتل الأرض السورية سواء أكانت من العصابات الإرهابية المدعومة استعمارياً أو من قوى الاستعمار التي تدعمه ذاتها.

ربما أن الخروج من هذه الحالة المباشرة من "البلطجة" التي تمارسها الولايات المتحدة في العلاقات الدولية يستلزم دون شك أن تدخل الصين إلى الملعب الدولي. لكن بكين تمارس اللعب بعيداً عن الملعب الذي تفضله أمريكا أكثر من غيره، ونعني به ملعب الشرق الأوسط. ومن الواضح أن الصين لا تقيم وزناً من أي نوع لما يحدث في فلسطين وسوريا واليمن. كأنما لسان حال الصينيين هنا هو "فخار يكسر بعضه".  وقبل شهر تقريباً قامت الصين بلفتة لطيفة ذات دلالة حاسمة على مقدار اهتمامها بالقضية الفسطينية، إذ قدمت "عيدية" للفلسطينيين تمثلت في مليون دولار مساعدة للأونروا. وفيما عدا هذه اللفتات التي تحدث مرة كل سبع سنوات عجاف يمكن للشرق الأوسط أن يحترق بنفطه، ومن يسكن فيه على السواء. الصين ليست معنية بالعبث الذي يحدث في "الشرق الأوسط" ويكفيها افريقيا وشرق آسيا، دون أن يعني ذلك التفريط بأي شكل في التجارة مع دول المنطقة دون استثناء، وبما يشمل الفوز بمناقصات لتطوير الموانئ الإسرائيلية وتطوير شبكات القطار ...الخ.

علينا أن نتذكر أيضاً أن هناك حلفاً غامضاً بين "المصلحة" الصينية ونظيرتها الأمريكية تجعل الصين غير معنية بتدهور الأوضاع كثيراً في أمريكا: الاقتصاد الصيني يعتمد كثيرا على التصدير لأمريكا، ولعل من المفيد أن نذكر بأن متجر "وول مارت" بمفرده يستورد من الصين سلعاً بمئات المليارات من الدولارات، ومن الواضح أن احداً في العالم لا يمكن أن يحل محل السوق الأمريكية. وهناك أمر آخر يتمثل في الديون الصينية الكبيرة لدى الولايات المتحدة. ولذلك ليست الصين حرة تماما في إغضاب أمريكا أكثر مما يجب، فقد تقرر واشنطون عدم سداد الديون، ولتضرب بكين رأسها في أصلب نقطة من سور الصين العظيم.

هكذا يبدو أن أمريكا قد فقدت "موضوعياً" أساس هيمنتها الاقتصادي، ولكنها تعيش بقوة قانون "القصور" الذاتي بضعة عقود أو على الأقل عقداً واحداً من الزمن في ظل عدم تقدم الصين لإزاحتها. وليس الزمن بالتأكيد زمن هتلر الذي تقدم بقوة لإزاحة بريطانيا العجوز، فقدم خدمة لا تعوض للمهيمن الأمريكي الصاعد. اليوم روسيا أضعف من القيام بذلك الدور، وأمريكا أضعف من أن تمارس الهيمنة الناعمة، لذلك تتصف سياستها بالبلطجة الفجة، وتفرض على "العالم" عنوة وجهة نظرها في "عدالة" القضايا بحسب ما تقرره المصلحة الأمريكية والإسرائيلية. وليس على الآخرين إلا القبول صاغرين بأن الشر كله يأتي من سوريا وحزب الله وأنصار الله..الخ وأن ما تفعله إسرائيل وتوابع أمريكا في العالم هو الحق والعدل والخير الذي لا تشوبه شائبة. كأننا في مواجهة أبي الحسن الأشعري الذي يقرر بأن الفعل يصبح جميلاً لأن الله أمر به، وليس بسبب سمات ذاتية خاصة به. وهكذا فإن ذبح اليمنيين فعل جميل ما دام الله، عفواً نقصد ما دامت أمريكا قد أمرت به، وهذا ينطبق على فلسطين التي يصبح قضمها التام فعلاً شرعياً أخلاقياً يجسد إرادة السماء كما تقرؤها إدارة ترامب، ودوائر الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة.