الاعتراف اصطلاحاً، عكس الإنكار، وهو من المصدر "عرف"، الذي يحملُ في معاني اشتقاقاته الكثيرة المعرفة والتعريف، والتي تقتضي الإقرار وعدم الإنكار والعلم بالشيء والسعي إليه وتحديد هويته.
وصيغةُ الاعتراف تتناسبُ عكسياً مع مبدأ الصراع، فإن نقُصت زاد الصراعُ، وإن اكتملت انتهى. كما وتتناسب طرداً مع تجلي الهوية في أعلى درجاتها، فكلما كان الاعتراف كاملاً كلما كانت الهوية كاملةً. وتاريخُ العلاقات الدولية حافلٌ بصراعات الاعتراف المتعلق بالهوية. وعلى غرار نظرية "الصراع من أجل الاعتراف" التي أسس لها (أكسل هونيث)، رائد الجيل الثالث من مدرسة فرانكفورت الفلسفية والتي تُعد نظرية جديدة في مقاربة قضايا ومشاكل المجتمع المعاصر ضمن علم الاجتماع الفلسفي، والتي فسر على أساسها الصراعات الاجتماعية إنطلاقاً من الصراع على اعتراف الدولة بالمواطن وحقوقه، فإنه بالإمكان إطلاق مقاربة مشابهة على صعيد العلاقات الدولية (أو المستوى الدولي) تُعنى بمسألة (الصراع من أجل الاعتراف) المتبادل بين القوى المختلفة على الساحة الدولية.
ولأننا اليوم نستدعي لحظات التوقيع الأولى لإعلان المبادئ الذي جرى في البيت الأبيض قبل ربع قرن، فإن مقاربة "الصراع من أجل الاعتراف"، مقاربةٌ تستحقُ أن تُختبر لجهة علاقة الاعتراف بالصراع وبتشكيل الهوية.
إن أوَّلُ ما تُطالبُ به الدولُ الناشئةُ حديثاً، هو الاعتراف الدولي بها، والذي يعني اعترافاً بحقها في الوجود، وهو الحق الأصيل الأول، الذي لا يأتي دونه حقٌ آخر، وبإحدى صيغ هيجل، فإن الاعتراف بالوجود هو أقل ما يمكن قوله عن أي كيان يمكن إدراكه أو تصوُّره، فهو الحد الأدنى وهو الجانب الأكثر تجريداً.
والحق في الوجودُ، يعني اعترافاً بـ "الذات" التي تشكل نواة "الهوية"، الفردية أو الجماعية، لذلك ظلت مسألة الاعتراف تقض مضجع الإسرائيلي إلى اليوم لأنها قائمةٌ على فرضيتين؛ الأولى: "فراغية المكان" الذي يُشكل حدود ممارسة الهوية ونطاق تشكلاتها وتحولاتها، أي خلّوه من أي طرفٍ آخر ينازعه فيه لأنه يقتضي بالنتيجة إنكار وجوده. لذلك ارتبط الصهيوني الأول بـ"الحق الأدنى" للوجود وبالميزة العكسية للصراع، فكلما كان الصراع أكثر حدةً كلما تحقق الوجودُ المنشودُ بصيغة أكثر واقعية، من هنا تبنى الصهيوني الأول إِعْمَالَ الإبادة والنفي والتطهير العرقي فكرةً ونهجاً وتطبيقاً حتى أثبتت فشلها باستمرارية وجود الفلسطيني كطرفٍ نقيض لتعريف الإسرائيلي ليظل سعيُه نحو الاعتراف مستمرا. أما الفرضية الثانية فتقوم على أساس وحدة هوية "الشعب اليهودي" كأساس لقومية تمكنه من الوجود على أرض فلسطين، وهو ما أرادَ له أن يتحقق عبر الاعتراف بدولةٍ يهودية، أي دولة قائمة على الدين كأساسٍ للقومية.
ويُشكل الاعتراف مطلباً أساسياً قَبْلِياً، يتبناه الصهيوني في أي عملية تفاوضية، فكان شرطاً أساسياً قبل مدريد وأوسلو، نُقلِ على لسان الولايات المتحدة عبر قوانين الكونغرس التي تم تشريعها فيما يتعلق بمنظمة التحرير الفلسطينية عند مطالبتها بالاعتراف بقراري مجلس الأمن 242 و338، واللذين يتضمنان اعترافاً بإسرائيل كدولة ضمن المنظومة الأممية بالدرجة الأولى كطموحٍ تحقق بعد إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، وبالدرجة الثانية ضمن المنظومة الإقليمية للعالم العربي الممتد من المشرق إلى المغرب، وهو ما طمحت وتطمح لتحقيققه قريبا، ولطالما روجت له عبر مبادرات تطبيعية أو فتح قنوات سرية لها مع العالم العربي أو مع الفلسطينيين قبل مفاوضات أوسلو ومدريد، وما بعدهما وحتى اليوم.
في المقابل كانت موازين القوى السائدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ودخول النظام العالمي مرحلة الأحادية القطبية، وضعف شرعية قيادة منظمة التحرير في مقابل بزوغ شرعية جديدة لقيادات من الداخل المحتل وإنطلاق شرارة الانتفاضة ودخول التيارات الإسلامية إلى الساحة السياسية، من الأسباب التي أدت بمنظمة التحرير الفلسطينية إلى التفاوض على منح جزء من هويتها للإسرائيلي كثمن تقايضُ به وجودها، أي الاعتراف بها، على الساحة الدولية كمنظمة تحمل الصيغة التمثيلة لشعبها؛ لا كجهة إرهابية، تفتقر للصيغة التمثيلية التي تتماهى مع وجودها ووجود الفلسطيني أرضاً وشعباً.
وكان القبول بمبدأ التفاوض لأجل الاعتراف يعني من ناحية عملية القبول بمبدأ التفاوض على الهوية لتحصيلِ الاعتراف، فكانت التركيبة المشوهة "للاعتراف والصراع" عاملاً حاسماً في عملية صياغة هوية المعترِف والمعتَرَف به؛ إذ أنه، وبما يُشكل الجانبان لبعضهما البعض، فإنهما يُعرفان حدودَ هوية كلٍّ منهما. فما يمنحُه المُعتَرِف للمُعتَرف به (والعكسُ صحيح)، يكونُ جزءا من تعريفه لذاته والمنقول منه للآخر. ولا يُمكن أن يكون هنالك اعتراف في حالات الصراع دون أن يكون هنالك سلبٌ لصفاتِ المُعتَرِف والمُعتَرَفِ به، ودون أن يَترُك كل منهما جزءاً من الهوية خلفهما طواعيةً، إذ تقتضي عملية الاعتراف تحديد صيغة "الـ-أنا" في مقابل صيغة "اللا-أنا" لكل طرف؛ ليكون "كل تحديد سلبٌ" وفق تعريف سبينوزا.
وبمقدار ما يُنتقَصُ من هوية أحد الطرفين، عبر الاتفاق الذي يجري التفاوض أو الاتفاق عليه، أو تطبيقه، بمقدار ما يُنتقص من عواملِ الاعترافِ الفعلي لذاك الطرف، فيظل مُعامِلُ الصراع قائماً. ذلك أن عملية التفاوض على الاعتراف لا يمكن أن تتم في فراغ دون أدوات مأخوذة من موازين القوى، لتكون ذات تصور أحادي وإقصائي في آن معاً.
ففي رسائل الاعتراف المتبادل بين رابين وعرفات، يقول الأخيرُ للأول:
"إن منظمة التحرير الفلسطينية تؤكد أن بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تنكر حق إسرائيل في الوجود وبنود الميثاق التي تتناقض مع الالتزامات الواردة في هذا الخطاب أصبحت الآن غير ذات موضوع ولم تعد سارية المفعول وبالتالي فإن م.ت.ف. تتعهد بأن تقدم إلى المجلس الوطني الفلسطيني موافقة رسمية بالتغييرات الضرورية فيما يتعلق بالميثاق الفلسطيني".
وهنا تتجلى صيغةُ التحولات والتشظي في هوية منظمة التحرير الفلسطينية، لتنسحب على تحديد هوية "الفلسطيني القديم والفلسطيني الجديد"، ولتُعيد تعريفَ "ذاتها القديمة" قبل توقيع اتفاقات أوسلو، لا بصفتها حركة تحرر وطني، وإنما كحركة إرهابية، ولتُقدم أيضاً تعريفاً لـ "ذاتها الجديدة" لا ككيانٍ مستقلٍ سيادي، وإنما "ككيان تحت الاختبار"؛ فبينما كان الفلسطيني الأول "ضحية" لاستعمارِ إحلالي استيطاني؛ أصبح الفلسطيني الجديد "رهينة" اختبارِ المُستعمِر له.
ولأن الاعتراف الذي مُنح لمنظمة التحرير كان اعترافاً منقوصاً يُشترط فيه أن يكون كاملاً نابعاً عن إرادة حرّة لكي ينجح، فإن تمثلاتها على الأرض، تجسدت بإعادة إطلاق الصراع الداخلي الذي تحدث عنه أكسل هونيث؛ فالاعتراف هنا يعني وجود سلطة، أي سلطة تقوم على المكون الأمني (عنصر أمني) لا على المكون البشري (المواطن الفلسطيني)، فوجود سلطة يعني سعي المواطن والنخب لممارسة مواطنتهم، ليتحول الصراع من صراع احتلال- مُحتَل (إسرائيلي- فلسطيني) إلى صراع فلسطيني- فلسطيني.