لأوّل مرّة أكونُ وجهًا لوجه أمام السّماء، لأوّل مرّة أنامَ في العَراء الحُر، أتفقّد النّجماتِ كأنّني أعرفها منذُ الشّهقة الأولى للخَلقْ، إنّ شعورًا بالألفة يجمعنا رغمَ أنّنا لم نلتقِ إلّا لمامًا، سأعترفُ أنّني أعاني من الدّوار عندَ النّظر إلى السّماء، وعند النّظر من مكانٍ مرتفع، وعند القراءة في السّيارة، الدّوار صِفة تكاد تكون من متلازِمات الحياة.
بماذا يفكّر الإنسان عِندما يَجد نفسه هكذا؟، أعني ملتصقًا برؤية لانهائيّة للسّماء التي لا تُنقَصُ من أطرافِها، والتي تلتَحم بآخر زوايا النّظر، لم يَكن يهمّني في الحقيقة بماذا يفكّر الإنسان، كنت منساقًا وحدي إلى التّفكير في النّجمة التي يراها ملايين البَشر في هذه اللّحظة، وينثرونَ لها الأمنيات، أو الدّعاء، أو السّخط، أو البُكاء المُرّ جدًا، نَجمة واحدة من المُفترض أنّها ترى ملايين البَشر، وربّما يحتجزها عاشقان كملكٍ قسريّ لهما: هذه نَجمتنا، يقول مِن سطح بيتِه في شمال النّهر، ترد: أجل نجمتنا، وترسلُ له قبلةً معها من غرب النّهر، وكذا القَمر.
لستُ مُغرمًا باتّباع العادات الصّحية لممارساتٍ لا صحيّة، الجميع يحذّرني من أن أدخّن وأنا مستلقٍ على ظهري، أيّ هراء هذا، إنّ التّدخين جالسًا أقلّ ضررًا، أكثر صحيّة، هذه قشّاتٌ للتّعلق والأمل ولا تعنيني مطلقًا، فالغَريق يسلّم جسده للبَحر، هذا منطقيّ أكثر على الأقل هُنا، هُنا في هذه المهزلة.
قبلَ ثلاثة أيام زرتُ مؤسّسة ما، دخلت، وجلست بلا أيّة رغبة بالحَديث، التّعب أحيانًا يفقدك القدرة على عمل أيّ شيء، استَمعت: تخيّل نفسَكَ رغيفَ خبز، وتخيّل أينَ يمكن أن تكون الآن، للوهلة الأولى قد يبدو الأمر غاية في التّفاهة، لكنّ الحقيقية أنّني لو كنتُ رغيفَ خبز لما احتجتُ أن أفكّر كثيرًا في أيّ شيء، لن أفرح مثلًا لأنّني سأكون في معدة غنيّ أو فقير، لن أهتمّ إن أُكلتُ مع الفول أو مع اللّحم، لن أشعر بأيّة رغبة في متابعة ما يجري حَولي، لَن أحلمَ بطبقٍ ذهبيّ أوضع فيه، ليسَ لأنّني جماد، بل لأنّني تجاوزت مراحِل أكثر من كثيرة، حينَ كنتُ حبّة، ودفنتُ لتتفتّق أجزائي، ثمّ طُحنت، فوضعتُ في ماءٍ يغلي، ففرنٍ شديد الحَرارة، بعدَ هذا هَل يُمكنني أن أعيرَ الأمور الأخرى أيّ انتباه؟. لو كنتُ رغيفَ خبز لقررتُ أن أكتبَ شعرًا وأقول:
"فَعَلامَ تُرِيدون حَديثي؟ وَ أنا ذو قلبٍ مُسْتَعْمَلْ
أَبْلاَهُ الماضي لم يَتْرُكْ شيئًا لِبَلاءِ الـمُستقبَلْ"
وكنتُ أشرتُ أنّنا متشابهون جدًا، البشر والخُبز، فربّما (تغمّس) آلهةٌ ما إدامَها بالبَشر، وربّما كانَ الفُرن الأوّل مخبزَ صلصال، ولا فرقَ بين سبعِ سنابل وضلعٍ أعوج أو مستقيم.
أمس كانَت الغيوم زهريّة اللّون، ولا مُبرر لهذا اللّون إطلاقًا، لستُ متشائمًا لدرجة أن أفكّر بالدّم، ولا متفائِلًا لأفكّر في الورد، أو أنّ السّماء حَنَت على عاشِقين، فحاولت إرضاءَهما، لا شيء يَحنو هُنا، كلّ الأشياء تحنّ.
لا أعرفُ لماذا يعتقدُ البعض أنّ السّماء أكثر غموضًا من الأرض، ولو طلبتَ منه ذكر ثلاثة أنواعٍ من النّمل لم يَعرف، الأرض أكثر غموضًا، وجنونًا، وسوادًا، وتوحّشًا، لا أدري أيّ لعنة جعلتها هكذا، أو أنّها هكذا من قَبل!
نَحن رماديون في اللّيل، السّماء زهريّة، ورغيف الخبز يابس جدًا على طرفِ المدينة، وصديقي يختار اسمًا غبيًا لروايته، تمامًا كما اختير عنوان هذه الرّواية: الحياة.