لو أننا اعترفنا منذ البداية بحجم الكارثة في اتفاقيات أوسلو وبدل الدفاع عنها أو الهجوم عليها لفظا اتفقنا على أننا كنا مجبرين على ما تورطنا به وحاولنا بفعل حقيقي على الأرض أن نتجاوز الكارثة بكل أبعادها ووحدنا كل الجهود لرفع مستوى ما حصلنا عليه إلى أعلى وقدمنا لأنفسنا أولا ولعدونا ثانيا وللعالم ثالثا نموذجا حقيقيا لشعب يعرف معنى الحياة والفعل وصنع الحقائق على الأرض فلقد خضعت اليابان يوما إلى أبشع أنواع الاحتلال ووقعت على ما هو أقسى من الخنوع وفعلت ذلك ألمانيا أيضا وكذا الاتحاد السوفيتي فليست اتفاقيات الخنوع ظاهرة خاصة بالشعب الفلسطيني فقط فالإمبراطورية اليابانية فقدت نهائيا العديد من أراضيها ومنها الكوريتين وتايوان وعديد الجزر الأخرى ومع ذلك تمكنت اليابان من الانتقال إلى مكانة أكثر الدول تقدما في العالم ورغم أنها حصلت رسميا على استقلالها في 28/4/1952 على اثر توقيع معاهدة سان فرانسيسكو في 8 أيلول 1951 وقد نصت تلك المعاهدة على إخضاع اليابان. للأحكام الصادرة عن المحكمة العسكرية الدولة ومحاكم جرائم الحرب الأخرى والتي خضعت لها اليابان داخل اليابان وخارجها وبذلك التزمت اليابان بتعويض مدنيين دول الحلفاء وأسرى الحرب السابقين وقد سمحت تلك المعاهدة بتواجد عسكري أمريكي كبير في اليابان لا زال حتى اليوم ويصل تعداد القوة الأمريكية في اليابان الى 54 الف عسكري ويضاف لهم عائلاتهم وهم يتمتعون بحصانة خاصة لا تطالهم القوانين اليابانية ويتحمل دافع الضرائب الياباني مليارين دولار سنويا هي تكاليف استضافة الاحتلال العسكري الأمريكي الناعم تحت مسمى معاهدة تعاون او سلام او استضافة او دفاع مشترك لكن الحقيقة تبقى ان القوات الأمريكية هناك هي قوات احتلال وان منتسبيها وعائلاتهم لا يخضعون للقانون الياباني بالكامل ومع كل ذلك تمكنت اليابان من اجتياز كل الظروف القاسية وهي اليوم واحدة من أهم دول العالم بكل المقاييس.
بعد أوسلو انشغلت قوى الشعب والفصائل والمؤسسات بصراعات من أشكال وألوان مختلفة بدءا من الاتهامات المتبادلة حول أوسلو بين من يعتبرها خيانة وجريمة ومن يعتبرها انجازا ناقصا ومع ان الجميع بلا استثناء انخرط في المؤسسات الناتجة عن أوسلو وبحث لذاته ولجماعته عن مكاسب آنية سخيفة بدءا من الوظيفة الدنيا وانتهاء بالوزارة ومع ذلك ظل خارج دائرة الفعل فهو يريد وظائف ورواتب لعناصره ولكنه ليس على استعداد للمشاركة في إعادة صياغة الفعل على الارض ولا في تطوير الأداء ولا في البحث عن مخارج تمكننا من ان نأخذ من أوسلو ما يمكننا.
بعد أوسلو أصبحت كل الإدارات في أيدينا وهي حسب تسمية أوسلو إدارات لا وزارات لكننا اهتممنا بتسميتها وزارات وبألقاب الوزارة ومقرات الوزارات ودرجات الموظفين وسياراتهم ومواكبهم وكأننا في دولة كاملة السيادة مع ان الدول كاملة السيادة لا تفعل ذلك فلم يعد العالم يقبل مواكب المسئولين ولا المرافقات ولا إغلاق الطرق ولا الاحتفالات والمهرجانات والبهرجة بلا معنى سوى هدر المال العام بلا معنى ولا طائل.
مع أننا شعب يبحث عن المساعدات للمشاريع إلا ان حجم الإهدار العام بلغ في بلادنا ما لم يبلغه في أي بلد على تشبه حالنا وقد أتت السلطة الفلسطينية في المرتبة 107 في هدر المال العام عالميا وهي الثانية عربيا بعد العراق حسب مؤسسة " ترانس بيرانسي انترناشيونال ", السلطة الفلسطينية تدير المساعدات الخارجية والتي وصلت الى حوالي 25 مليار دولار خلال ربع القرن هذا الى جانب ما يجبى من المقاصة مع الاحتلال وما يجبى داخليا من رسوم وضرائب وخلافه ومع ذلك فان حجم الفاقد خطير واليات الإدارة للمال العام اخطر وحجم الصرف على الوظائف والتوظيف والشكليات اخطر بمئات المرات من أي بلد مستقل في المنطقة ويقول وزير المالية ان الرواتب تشكل 50% من الموازنة وهي من أعلى النسب في العالم.
بعد أوسلو سارعت إسرائيل من توسعها في إقامة المستوطنات وتهويد الارض وتركنا نحن وزارة الزراعة مثلا وانشغلنا بافتتاح سفارات حول العالم فقد بلغ عدد سفاراتنا في العالم 95 سفارة بينما عدد سفارات إسرائيل 78 سفارة ولا يخفى على احد نتائج الفعل بين سفاراتنا الأكثر عددا وسفاراتهم الأقل عددا بينما يتم إنفاق عشرات الملايين على هذه السفارات وطواقمها دون ان نحصل منها على المردود الحقيقي الذي نريد.
طواقم للمنظمة وطواقم للسلطة وطواقم للفصائل, سفارات للسلطة ومكاتب للمنظمة وسفارات حتى لبعض الفصائل وقيادات بأشكال وأنماط مختلفة ومجلس تشريعي ومجلس وطني ومجلس مركزي كل ذلك لشعب صغير وفقير خاضع للاحتلال ومشرد في بقاع الارض وتنهب أرضه باستمرار ويجري التآمر عليه من كل حدب وصوب ومع ذلك نمعن جميعا بالاهتمام بشكلنا الخارجي ومصالحنا بعيدا عن القضية والوطن وطوال ربع قرن منذ توقيع اتفاقية أوسلو وحتى اليوم لم نقدم ولو مرة واحدة نموذجا لقدرتنا على ان نسبق الاحتلال ونتفوق عليه اللهم إلا بعدد الجنرالات والوزراء والمدراء وحجم الرواتب والمصروفات وفخامة العيش والصرف وفواتير السفر وأنواع السيارات فقد لا يكون هناك سيارة واحدة في كل دولة الاحتلال لمسئول مهما ارتفع شأنه تصل لأي سيارة مسئول فلسطيني وما يتبع ذلك من مصروفات ونفقات وتنغيص حياة الناس بالمواكب والموائد والاحتفالات ولا زال حالنا بحاجة للكثير الكثير في الصحة والتعليم والصناعة والتجارة ناهيك عن عدم الاكتراث المأساوي بحال الزراعة والتي من المفترض ان تكون وزارة دفاعنا الأولى قبل أي شيء لأهميتها في الحفاظ على أرضنا, فبينما تشكل الزراعة لدى عدونا رافعة لاقتصاده تتراجع حال مزارعنا ورقعة أرضنا المزروعة حد سعي المزارعين لترك أرضهم والبحث عن بدائل تصل حد العمل في مستوطنات العدو وفي زراعته ضد زراعتنا فأين نحن إذن من المثل الذي كان علينا ان نسعى إليه بدل ان نندب حظنا ونغرق في وحلنا لا وحل غيرنا حتى.
منذ أوسلو حتى اليوم تقدم الحال باقتصاد إسرائيل وزادت رقعة الأراضي المصادرة لصالح الاستيطان وتضاعف عدد المستوطنين وظهر جليا حجم الإجراءات التي تمت لتهويد القدس وكشفت أمريكا عن أنيابها بالمطلق ضدنا ووجدت من المتحالفين معها ومناصريها العلنيين والسريين الكثير بما فيهم العرب وهم الحلفاء المفترضين أصلا وفي المقابل لا زلنا نواصل حرب التكفير والتخوين والانقسام ومعطلة كل مؤسساتنا بسبب الانقسام او حتى الاختلاف كحال مؤسسات منظمة التحرير وفيما تواصل إسرائيل انجازاتها على الارض وتحقيق المكاسب نواصل نحن حربنا ضد بعض دون أدنى شعور بالخزي.
لم تكن أوسلو الجريمة إذن بقدر ما كنا نحن المجرمين من خلال دورنا وطريقتنا في إدارة حالنا فكثيرة هي الشعوب التي هزمت ووقعت على اتفاقيات خنوع وذل أحيانا لمرحلة من المراحل لكنها سعت الى استعادة عافيتها صادقة وجادة الى أن استطاعت تجاوز هزيمتها واستعادة مكانتها وقد كان يمكننا يا أوسلو لو أننا قررنا ان نكون نحن نبني ذاتنا الواحدة الموحدة ونضرب مثلا في الأداء والتقشف والصمود ونبني لا نهدم ... نوفر لا نهدر, نطور ... لا نتراجع الى ان نتفوق على عدونا بالفعل لا بالخطابات التي لا تغني ولا تسمن من جوع فألف قصيدة للقدس لن تلغي حجرا واحدا في مستوطنة واحدة في القدس, قد كان يمكننا يا أوسلو لو أننا أردنا فقط ان نحارب أوسلو بالفعل والعمل والأداء لا ان نحترب على تقاسم غنائم الوهم الزائلة حتى لم يبق احد منا إلا وأصبح جزءا من تكريس أوسلو لا جزءا من مسيرة الانتصار عليها وتجاوزها كباقي الشعوب الحية والمنتصرة والأمثلة كثيرة وكثيرة.
قد كان يمكننا أن ننتصر على أوسلو بأوسلو وبدل أن تصبح أوسلو وبالا علينا كان يمكننا أن نجعل عدونا يعض يديه ندما على فعلته لو استطعنا أن نجعل منها شاكوشا ندق به مسامير بنياننا ونعش عدونا شريطة الإرادة والتضحية والفعل على الأرض للوطن لا للذات أيا كان مسماها ومع أننا لم نفعل وفعلنا العكس انقسمنا واقتتلنا وحاربنا بعضنا قبل عدونا إلا انه لا زال يمكننا أن نعود ونستعيد ذاتنا الواحدة الموحدة إن أردنا لها أن تنتصر.