يتفق معظم أفراد الشعب الفلسطيني بأن قضيتنا الوطنية تمر في أسوأ وأخطر مراحلها، و رغم التباينات السياسية والفكرية والعقائدية عند مكونات هذا الشعب فهي جميعها متفقة على "العُقدة" التي نحن فيها.
وأعتقد جازماً أن هذا ليس وقت عتاب بل هو وقت مراجعة بمسؤولية عالية والخروج بخلاصات من أجل محاولة الصعود من الهاوية والخروج من النفق على أمل إعادة الحياة من جديد لهذه القضية العادلة والمُعقدة الحل.
بمناسبة مرور عشرين عاماً على اتفاق أوسلو وبعد ما وصلنا إليه تتفق الغالبية العظمى بأن هذا الاتفاق وما رافقهُ من تنازلات مجانية لم تكن في خاطر أحد من صناع القرار الإسرائيليين، قد كان اتفاقاً خاطئاً مُتسرعاً متفرداً لم يجلب سوى الدمار والمصائب على شعبنا.
إن فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة والقطاع وعاصمتها القدس، والتي طُرحت في مشروع روجرز وبدعم من الرئيس الراحل عبد الناصر والتي تبنتها منظمة التحرير أولاً في برنامج النقاط العشرة في دورة المجلس الوطني عام 1973؛ كانت بداية التنازلات الطوعية عن قرار أُممي جرى الاتفاق عليه بالأمم المتحدة عام 1947م بإعطائنا حوالي نصف مساحة فلسطين وبتصويت ودعم غالبية دول العالم وخاصة تلك التي دعمت إنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.
وبعد كل ذلك ووصولاً إلى قبولنا بأقل من نصف ما أعطاه لنا قرار التقسيم، إلا أن شيئاً لم يتحقق على أرض الواقع وأصبح واضحاً تماماً أن الحركة الصهيونية لن تتنازل عن أي جزء من "أرض إسرائيل" التاريخية، ولن تسمح بأي سيادة فلسطينية حقيقية في أراضي "يهودا و السامرة ".
ولهذا السبب من الواجب علينا كشعب فلسطيني مراجعة برنامجنا السياسي، واعتقد أنهُ لم يتبق أمامنا غير خيار دولة واحدة على كل أرض فلسطين ولنترك التفاصيل للزمن.
ولكن للأسف وهو الأهم أننا لم ننجح في بناء دولة لأسباب ربما أغلبها أكبر منا وخاصة قوة الحركة الصهيونية والدعم الأمريكي اللامحدود لسياسة الأبرتهايد المتبعة والتخاذل الرسمي العربي، و لكن هل هذا يمنع من بناء وطن ومجتمع وهوية فلسطينية واحدة تؤسس للأجيال القادمة خطوات نحو حلم التحرير والاستقلال الجواب للأسف لا.
إن السلوك العام لمجموع القوى الوطنية العاملة بالساحة والذي بلا شك قد عكس نفسه على سلوك عامة الشعب؛ لم يكن أبدا في مستوى التحديات والأخطار التي نعيشها. وقد بات واضحاً أن الهدف الرئيسي لكافة القوى هو الحفاظ على المكتسبات والامتيازات الذاتية على حساب المصلحة الوطنية العامة.
إن فشلنا في إقامة بنية اقتصادية متينة وبقاء اعتمادنا بشكل شبه كامل على الاحتلال لا يوجد ما يُبرره، كما أن فشلنا في بناء الشخصية الوطنية الفلسطينية عند جيل الشباب من خلال تطبيق نظام الخدمة المُجتمعية مثلاً أو تأسيس مناهج تعليمية حديثة ومتطورة وعدم وجود رواية موحدة للتاريخ الفلسطيني أفقد شبابنا الحماس والانتماء لوطن موحد.
كما أن السياسة المالية المُتبعة وذلك من خلال إفقار الشباب بإعطائهم القروض طويلة الأجل لشراء سيارات جديدة، وبالتالي ربطهم بعجلة التسديد لسنوات طويلة لأغراض ليست ذات أهمية في مساحة جغرافية ضيقة، هذهِ السياسة تهدف بلا شك إلى حرف نظر الشباب عن مسؤولياتهم في بناء وطن سليم، و فوق كل ذلك فهناك مظاهر التبذير والبذخ من خلال المرافقين الحراسات التي تُهلك الموازنة العامة والتي في أغلب الأحيان ليس لها أي داع سوى مظاهر واهمة وألقاب غير مُعتاد عليها شعبيا، و لو بقيت مُسميات أخ أو أُستاذ أو رفيق بدل معالي وسيادة وعطوفة ليبقى مُجتمعنا أبسط وأنقى و أكثر تماسكاً.
إن عشرات مليارات الدولارات والتي دخلت إلى الوطن خلال العقدين الماضيين أغلبها لم يتم استثماره من أجل تدعيم ركائز الصمود والنهوض والبناء. ورويداً رويداً يتجه مُجتمعنا المفروض أنهُ تحت الاحتلال إلى مجتمع شبيه بالدول العربية المجاورة من خلال تهميش وتصغير دور ومكانة الطبقة الوسطى، وذلك على حساب فرز طبقي ومُجتمعي يزيد الفجوة بين أبناء الشعب الواحد وصولاً لمُجتمع يتكون من طبقة الكمبرادور والإقطاع الاقتصادي وطبقة الفقراء من العمال والفلاحين والموظفين الصغار.
وللأسف فبعد عقدين لم ننجح جميعنا قوى وأفراد ومؤسسات في بناء الحد الأدنى المطلوب لوطن فلسطيني تسودهُ العدالة والحداثة والديمقراطية من أجل تدعيم الصمود والانتماء وصولا لنيل حُريتنا وحقوقنا بكرامة وعدل في الأيام القادمة.
ورغم كل هذهِ الصورة السوداوية نبقى مُتمسكين بالأمل وإذا أحسنا التصرف والعمل وتحمل المسؤولية من الممكن لنا أن نبدأ من جديد وإلاّ فسيكتب التاريخ عن جيلنا هذا أننا أهدرنا الأرواح والأموال هباء منثورا . إن الشعب اليهودي الذي استطاع أن يُؤلف رواية ويُصدقها العالم عن تاريخهِ مُستنداً إلى أساطير ليس لها أي دلائل مادية؛ استطاع لاحقاً أن يبني دولة قوية لها مكانة مهمة وفاعلة ومُؤثرة ومساهمة مهمة في كافة المجالات والحقول على هذا الكوكب.
إما نحن والذين نمتلك التاريخ الموثق بالأدلة والحقائق فإذا أحسنا صياغة الرواية ووحدناها حتى لو اختلفنا بأساليب العمل وأعدنا الاعتبار للدعم الدولي وعملنا من جديد على بناء وطن يليق بتضحيات شعبنا عبر الأجيال وقتها فقط ممكن أن يكون هناك أمل.