الأربعاء  27 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

اعترافات بقلم: أحمد أبو سليم

2018-09-28 12:15:41 PM
اعترافات
بقلم: أحمد أبو سليم
أحمد أبو سليم

سأَعترف:

في رأسي أَفكار تتلاطم مثل موج البحر، أَشعر بها تأتي موجة بعد موجة، تضرب سوراً حجريَّاً يمثِّل جدار الوعي، فتهزُّه، تزلزل أَركانه، وأَساساته، وتجعلني في كلِّ مرَّة أَعود إلى النُّقطة الأُولى لأَبدأَ من جديد..تماماً مثل طفل يحاول أَن يركِّب صورة مقطَّعة "Jigsaw puzzle"، فيفشل، ثمَّ يشعر بالغضب، ونفاذ الصَّبر، فيخلط كلَّ شيء بكلِّ شيء، ويجلس غاضباً، لكنَّه ما يلبث يعود زاحفاً مرَّة أُخرى، إلى الصُّورة، بدافع قوَّة فضول هائلة، محاولاً من جديد.

وسأَعترف:

آلاف الأَسئلة منذ بدأت أَعي الحياة تقضُّ مضجعي، لكنَّها أَسئلة من ذلك النَّوع السَّمج، الَّتي غالباً ما تقودك من يدك كالأَعمى، وأَنت تظنُّ أَنَّك بصير، لتجد في نهاية المطاف نفسك تقف أَمام جدار مسدود، بلا بصر، تتحسَّسه بكفَّيك، وتحاول أَن تجد ثمَّة مخرج، فلا تجد، وعليك في هذه الحالة أَن تتلمَّس طريقك عائداً إلى الخلف، بعد أَن يعييك التَّعب.

وسأَعترف:

عام 1983 في تركيَّا، مع بداية تفتُّح الوعي، والسُّؤال، سأَلتُ أَحد المسؤولين في الجبهة الشَّعبيَّة لتحرير فلسطين، هل وجود التَّنظيمات الكثيرة على السَّاحة الفلسطينيَّة ضارٌّ أَم نافع؟ فأَجابني إنَّ أَيَّ انقسام على أَساس أَيديولوجيِّ هو انقسام صحيح، وطبيعيٌّ، وظلَّ الجواب معلَّقاً في ذهني، وكأَنَّني لم أَقتنع به، ثمَّ رحتُ أَطرح على نفسي السُّؤال التَّالي: ما الفرق إذن بين الجبهة الشَّعبيَّة، والجبهة الدِّيمقراطيَّة، وجبهة التَّحرير، وجبهة النِّضال، ولماذا انشقَّت التَّنظيمات الَّتي تحمل الفكر الأَيديولوجيَّ ذاته، بعضها عن بعض، ولم أَجد الجواب إلاّ بعدما سافرتُ إلى الاتِّحاد السُّوفييتي للدِّراسة.

وسأَعترف:

في موسكو بدأَت الأَسئلة الفلسفيَّة تقضُّ مضجعي، فكَّرتُ في دخول كليَّة الفلسفة، بدلاً من الهندسة، وحين كنتُ في زيارة إلى صديقة في جامعة موسكو، رأَيتُ بقايا دماء على الأَرض، سأَلتها عنها، فأَخبرتني أَنَّ طالب فلسفة انتحر صباحاً، أَلقى بنفسه من الطَّابق الرَّابع عشر، أَو الخامس عشر، لم أَعد أَذكر، ومات، كان أَقرب إلى الجنون منه إلى العقل، فتردَّدتُ في فكرتي، وغيَّرت رأيي، لكنَّ ذلك لم يوقف سيل الأَسئلة المتدفِّق في رأسي.

وسأَعترف:

لم يثنني موت الطَّالب منتحراً عن ملاحقة أَسئلة الحياة والموت، كنتُ أَخلق السُّؤال من اللاسؤال، من أَيِّ واقع، من أَيَّة حقيقة قد تبدو حقيقة مطلقة، يحاول أُستاذ الفلسفة أَن يقنعنا بأَنَّ حاجة المجتمع السُّوفييتي إلى الأَحزاب قد انتفت بوجود الحزب الشُّيوعي السُّوفييتي، لأَنَّه يمثِّل تطلُّعات الشَّعب، أَو السَّواد الأَعظم من الشَّعب، وأَنا أُحاول إقناعه-دون جدوى طبعاً- بأَنَّه، لا هو، ولا الشَّعب يعرف كيف كان يمكن أَن يكون مسار الحياة، أَفضل، أَم أَسوأَ، لو أَنَّ المناشفة بقوا في السُّلطة، أَو لو أَنَّ القيصريَّة استمرَّت، وبقينا نتحاور حوار الطُّرشان، هو، وأَنا، سنة كاملة.

كان ذلك قبل انهيار الاتِّحاد السُّوفييتي بسنوات قليلة فقط.

وسأَعترف:

في ذلك العام، كانت الأَسئلة على أَشدِّها، روت لي زميلة قصَّة أَعدتُ استعمالها في رواية الحاسَّة صفر، قالت لي إنَّها كانت تلميذة نجيبة، معروفة بالصِّدق، والأَمانة، ومتفوِّقة في دروسها، وإنَّها ذات يوم قرَّرت أَن تقطف رمَّانة من شجرة في الشَّارع، فآذت عينها، وحين عادتْ إلى البيت، وسأَلتها أُمُّها عمَّا جرى لعينها، ارتبكتْ، وأَخبرتْ أُمَّها أَنَّ إحدى الطَّالبات ضربتها على عينها، كانت تكره تلك الطَّالبة، وكانت تلك الطَّالبة، كسولة، متَّسخة، يتيمة، كثيرة الغياب عن المدرسة، فما كان من الأُمِّ إلاّ أَن حملت ابنتها صباح اليوم التَّالي وذهبتْ بها إلى المدرسة لتشكو للمعلِّمات الطَّالبة الكسولة، وتطالب بمعاقبتها، وحين أَحضرت مديرة المدرسة الطَّالبة الكسولة تفاجأَت هذه بالتُّهمة، وعبثاً حاولت أَن تدافع عن نفسها، عوقبت لذنب لم تقترفه، لأَنَّ كلَّ الدَّلائل المُستنتجة لا تنفي أَنَّها قامت بالعمل.

انتهت القصَّة، لكنَّها كانت تفجِّر الأَسئلة في رأسي: ماذا يعني المنطق؟ وماذا تعني العدالة؟ مجرَّد عبث فقط، عبث بشريٌّ تقود الدَّلائل من خلاله إلى حقائق مزوَّرة، هل يقوم العالم برمَّته على ذلك؟ كنت في العشرين من عمري تقريباً.

كنتُ أَجمع الطلاّب وأُلقي على مسامعهم تلك الأَسئلة المجنونة، المقلقة، ولم أَعد قادراً على النَّوم، انتبهت معلِّمتي لذلك، وحاولت أَن تناقشني في كثير من الأَسئلة، كان منطقها بارداً في البداية، كانت تكبرني بعشرة أَعوام، وكنَّا نقضي السَّاعات في الحوار، كنتُ مع كلِّ سؤال أَخلق حيرة جديدة في رأسها، وفجأَة قرَّرتْ أَن تلتحق بكليَّة الفلسفة لإعداد رسالة الدُّكتوراه، لكنَّها لم تنتحر شأن صديقنا في جامعة موسكو.

وسأَعترف:

ثمَّة حالة من الدَّوار كانت تصيبني، وأَنا أُحاول تخيُّل الكون قبل أَن يكون كوناً، يوم بدأَ الانفجار الأَوَّل big bang، إن كان الكون كما تخيَّله العلماء نقطة، فما الَّذي كان يحيط به، ثمَّ لكي أُهدِّئ من روع نفسي، أَفترض أَن فرضيَّة العلماء مجرَّد وهم، لا يمكن أَن يكون قابلاً للتَّحقُّق، ثمَّ أَعود لتخيِّل نهاية هذا الكون، كلُّها كانت خيالات مجنونة، لكنَّني لم أَكن قادراً على أَن أَتخلَّص منها، كانت تتلبَّسني إلى درجة لم يكن بوسعي الخلاص منها.

وسأَعترف:

كنتُ أَسأَل نفسي، وأَنا أَقرأُ كتب الفلاسفة، ووجهات نظرهم، ماذا لو انطفأَ وعي البشر جميعاً، في لحظة واحدة، كما تنقطع الكهرباء عن مدينة بأَكملها، ما الَّذي سوف يتبقَّى من الحياة آنذاك؟ وما المعنى الَّذي ستحمله؟ 

وسأَعترف:

 أَنا الَّذي حاولتُ الانتحار، أَخيراً، لشدَّة أَسئلتي حول الموت، وقوانين الحياة، واحتجاجاً على كلِّ شيء، وفي محاولة منِّي لأَعرف ماذا يوجد في الموت، حاولتُ أَن أَضع حدَّاً لحياتي، لكنَّني لم أَمت، وها أَنا بعد كلِّ هذه السَّنوات، أَعترف بكلِّ ذلك، وأَعترف أَيضاً أَنَّ تلك الأَسئلة لم تغادرني، وأَعترف أَنَّها توسَّعت، وكبرت.

يتبع.....