الأربعاء  27 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

كلما كبر الحلم الإسرائيلي.. صغر الحلم الفلسطيني بقلم: عبد الصمد بن شريف

2018-09-29 12:10:05 PM
كلما كبر الحلم الإسرائيلي.. صغر الحلم الفلسطيني
بقلم: عبد الصمد بن شريف
عبد الصمد بن شريف

عندما قرر الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، فهو بخطوته تلك وفر كل عناصر اشتعال الوضع، وأقام حاجزا سميكا غير مسبوق في التاريخ أمام عملية السلام الموءودة والمشلولة.

ورغم خطورة القرار ودلالته المستفزة وحمولته الباعثة على القلق، فإنه تمادى في تدمير فرص السلام بين الفلسطينيين والاسرائليين عبر السعي إلى خنق وتفكيك منظمة "الأونروا" التي شكلت على مدى عقود ملاذا للاجئين الفلسطينيين في الداخل وفي عدد من دول الجوار، ومثلت لدى سكان المخيمات الأداة الوحيدة  للحصول على المعرفة والتربية، غير أن موقف "ترامب" بتجميد مساهمة بلاده في تمويل "الأونروا"، قد يقضي قضاء مبرما على أحلام عدد كبير من أطفال وشباب المخيمات، وإذا أضفنا إلى هذا الكم الهائل من المواقف السلبية والمعيقة للتعايش والتفاهم والتفاوض البناء والفعال، قرار الإدارة الأمريكية بإغلاق ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية في واشنظن، فإن الخلاصة المنطقية التي يمكن الخروج بها ،هي أن السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"  تشكل عاملا أساسيا في تكريس حالة عدم الاستقرار والاضطراب، وعائقا ضخما  أمام أية محاولة لتسوية نزاعات الشرق الأوسط وتهديدا للنظام العالمي .

فإن تزامن قرار نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس، مع إحياء الفلسطينيين لذكرى النكبة التي أعقبت قيام دولة إسرائيل عام 1948، عندما هدمت القرى والبيارات الفلسطينية  بشكل كامل ومروع وأرغمت مئآت الآلاف على الهجرة. هذا التزامن لم يكن اعتباطيا بل هو أراد أن ينقل إلى العالم رسالة مفادها، أن الإدارة الأمريكية تعتبر قيام دولة إسرائيل على أنقاض ما ارتكبته من جرائم، وما اقترفته من مجازر جماعية و ما دمرته وما أحرقته من قرى وبلدات، هو حق مشروع وتاريخي للشعب اليهودي، وأن هذه الدولة قامت لتنشر قيم الديمقراطية والتقدم والسلام وسط صحراء من التخلف وأعداء التقدم. ويعد انحيازا تاما لإسرائيل ودفاعا مستميتا عن أخطائها وسياستها القمعية الاستئصالية تجاه الفلسطينيين. ومعروف أن الإدارة الأمريكية وقفت وما زالت  تقف بالمرصاد في وجه  أي لجنة تقصي الحقائق والتحقيق في هذه الجرائم.

إن الإيقاع الذي تسير بها السياسة الخارجية الأمريكية حاليا يكشف أن الرئيس "ترامب" يسارع إلى الزج بالعالم في بحر من  الفوضى لا ضفاف له. وفي منطقة  الشرق الأوسط التي أصبحت معادلا للاضطراب وعدم الاستقرار والحروب والنزاعات الناشبة في أكثر من بلد، أصبح الاختيار بين مطرقة  السياسية الهجومية وغير المسؤولة للبيت الأبيض، أو سندان دبلوماسية الدول المضادة للديمقراطية  من وجهة نظر أمريكية "إيران –تركيا –روسيا "حيث الانتقام من التاريخ هنا له دلالة قوية، خاصة وأن ما تحركه هي خلفيات إيديولوجية ومصالح إستراتجية ورغبة جامحة في امتلاك العالم والتحكم في تحديد مساراته ومآلاته. 

يحدث هذا بعد مرور ربع قرن من التوقيع على اتفاق أوسلو في  حديقة البيت الأبيض برعاية الرئيس الأمريكي السابق "بيل كلنتون" وبالرغم من ضبابة والتباس نص اتفاق أوسلو، كان هناك أمل في انبثاق  مرحلة جديدة  وعصر جديد في الشرق الأوسط، لكن بسرعة تبخرت الآمال بسبب تصلب إسرائيل وتشددها وعدم حيادية الوسيط أو الراعي الأمريكي، مما أجل تطبيق اتفاق أوسلو، وتم تعديل المضمون وتكييفه وفق المقاصد والأهداف الإسرائيلية .

تواصلت سياسة الاستيطان لتزيد في خنق المساحة المحدودة  أصلا لفلسطين وقبل أسابيع فقط  دشنت سلطات الاحتلال مستوطنة جديدة تدعى  “معاليه زيتيم” وتضم 60 منزلاً وسط حي رأس العامود قُرب المسجد الأقصى في القدس الشرقية، بعد أن تم الاستيلاء بالقوة على هذه المنازل عام 2003. وتزامن هذا التدشين مع مواصلة قوات الاحتلال الإسرائيلي عمليات تدمير المنازل والمزارع واعتقال المواطنين الفلسطينيين في عدد من المناطق .

وتدل تركيبة الوفد الذي حضر حفل التدشين والمكون من رئيس “الكنيست” ورئيس بلدية الاحتلال في القدس ووزراء البيئة والتعليم والداخلية والعلوم والتكنولوجيا، تمسك مكونات الحكومة الاسرائيلية وفي مقدمتها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بالقدس الشرقية والغربية “عاصمة موحدة” لإسرائيل. علما أن إسرائيل وبدعم من الإدراة من الأمريكية تسعى بكل الطرق إلى إسقاط ملف القدس واللاجئين من أي مفاوضات مستقبلية. واستنادا إلى معلومات تدوالتها مجموعة من وسائل الإعلام، فإن واشنطن تمارس ضغوطا على الدول العربية التي توجد بها مخيمات اللاجئين الفلسطينيين قصد توطينهم .

 إن الانزياح الخطير في السياسة الخارجية الأمريكية ، ورفض الحكومة الإسرائيلية القبول بمبادئ القانون الدولي المتعلقة بالجلاء عن كل الأراضي التي احتلها عام 1967، ورفضها الصريح لحق اللاجئين في العودة، واعتبارها مدينة القدس بشطريها الشرقي والغربي عاصمة أبدية لكيانها، يعتبر بمثابة تفخيخ وعملية تفجير لما تبقى من أوهام السلام، ويحدث هذا في ظل وضع عربي مطبوع بالتفكك والتمزق والصراع والعجز السياسي والمؤسسي التام وانهيار كل المشاريع والأحلام التي راودت أجيال كثيرة .

الحكماء الأكثر واقعية  وبراغماتية يرون، أنه إذا كان مسلسل" اوسلو" قد أقبر كليا، فإنه ليس هناك من خيار أو بديل سوى تعايش الدولتين. وهذا ما دفع  المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد إلى القول وقتها "إن التنازلات من جانب واحد ومن طرف القيادة الفلسطينية ،لا تهيئ أرضية للسلام، بل على العكس من ذلك، علما أن السلام ضروري أكثر من أي وقت مضى، وأن النضال المشترك للشعبين هو ما سيمكن من بلورة حل للنزاع . جاء ذلك في مقال نشره في مجلة "manière de voir  N:54 -2000"

بعنوان "خطر خضوع أبدي"واعتبر في هذا المقال، أن أوسلو صفت كل انجازات وايجابيات الانتفاضة.

 فمن من دافع عن أوسلو، علل ذلك بكون انه ليس هناك من خيار آخر لكون وصولهم إلى هذا الاتفاق دليل على أنهم رفضوا إمكانيات أخرى. معتبرا أن تقرير المصير ليس له من معنى سوى إذا قاد الفلسطينيين إلى الحرية والسيادة والعدالة، وليس إلى خضوع دائم لإسرائيل، علما أن عددا من المسؤولين الفلسطينيين حاولوا تقديم الاتفاق على انه انتصار .

في عام 1996 عندما كنت أنجز برنامجا وثائقيا بعنوان "فلسطين من الثورة إلى الدولة"، لصالح القناة الثانية المغربية، التقيت بعدد من القيادات والمسؤولين الفلسطينيين، ومن بينهم  الراحل حيدر عبد الشافي رئيس الوفد الفلسطيني إلى مدريد، استقبلني في إحدى مشافي قطاع غزة وصرح لي بما يلي "كنت مستاء، ولا أدري لماذا بقينا خارج ما يجري  خلف الستار، هذا فيه انتهاك لمبادئ العمل.

كنت سأكون سعيدا لو استجاب الاتفاق لمتطلبات السلام، لكن لاحظت منذ البداية أن هذا الاتفاق سيء، فأبعدت نفسي، لم أشهد حفل التوقيع ولا شاركت في أي من المفاوضات الأساسية بعد اوسلو  زالكلام لـ "حيدر عبد الشافي" الذي أضاف في نفس اللقاء، ما تم تحقيقه هو أقل بكثير مما كنا نأمل. قضية السلام تقتضي للاستجابة للحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني. بالنسبة لنا تعني الوصول إلى حقنا في تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس وحقوق اللاجئين كما نصت عليها قرارات الأمم المتحدة. أنا لست متفائلا في أي تقدم حقيقي فيما تم. إسرائيل تقيم الحقائق على الأرض لصلحها ولصلح المستوطنات رغم انسحابها من الأراضي المأهولة .إسرائيل هي التي أرادت تحديد صورة الوضع النهائي كما تريده هي.

"وفي نفس السياق  قال لي محمود الزهار القيادي في حركة حماس وكان آنذاك الناطق الرسمي باسم الحركة" نحن نعتقد أن اتفاقية  أوسلو" أ" و" ب " لم تأت بالحد الأدنى الذي ترغب فيه منظمة التحرير، وهي بالتأكيد لا تلبي احتياجات وموقف حركة حماس من قضية فلسطين، القبول بتجزئة اتفاق أوسلو وتطبيقه على الأرض إلى مراحل، سيضر بمصلحة الشعب الفلسطيني"

 ولقد سبق لـ "راموس عوس" الروائي الإسرائيلي الذي ينتمي إلى معسكر الحمائم  أن اعترف في تصريح لإذاعة" بي. بي. سي" في شتنبر 1993 بأن اتفاق أوسلو هو النصر الثاني الكبير للحركة الصهيونية عبر كل تاريخها .

ما يلاحظه العديد من المهتمين بتطور القضية الفلسطينية، هو أنه بعد كل هذه السنوات التي مرت على توقيع معاهدة أوسلو وغيرها من المعاهدات، فإن الانتفاضة الفلسطينية الأولى  لم تكن إرهابا بل مقاومة شعبية شاملة ودفاعا مستميتا عن حقوق ثابتة وعادلة، وهي التي أرغمت إسرائيل على الانسحاب من عدد من المناطق ، وفي الوقت الذي كان يحلم فيه الفلسطينيون بدولة مستقلة وذات سيادة وبمؤسسات ديمقراطية وبوحدة وطنية قوية وبعيش كريم بعيدا عن الإذلال والاحتقار والإهانة اليومية ، فإنهم يصدمون بالواقع المر، كون إسرائيل لم تتوقف عن  سياسة الاحتلال والضم والتهويد وبناء المستوطنات وترسيخ الجدار كعلامة جلية على مفهوم العقلية الإسرائيلية لعملية السلام والتعايش، تتحكم في كل شيء، في الحدود وفي المعابر والبر والبحر والجو، والاقتصاد والصادرات والواردات وعملتها "الشيكل" هي المتداولة، ونسبة كبيرة من العمال الفلسطينيين يشتغلون في المعامل الإسرائيلية، وهي التي تتصرف في المياه والطاقة، وبإمكانها أن تمنع أي مسؤول من السفر إلى الخارج، أو الدخول إلى أراضي السلطة الفلسطينية، وفي المقابل تصدعت الوحدة الوطنية الفلسطينية واندلع الصراع على أشده بين حركتي فتح وحماس، وانتشر اليأس والإحباط في المجتمع الفلسطيني، خاصة في محيط عربي مخرب وقاتم، وهذا يعني أنه كلما كبر وامتد الحلم الإسرائيلي، صغر وتقلص الحلم الفلسطيني.

* صحافي وكاتب مغربي