الأربعاء  27 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الفساد والرواتب الغامضة/ بقلم: ناجح شاهين

2018-09-30 11:33:04 AM
الفساد والرواتب الغامضة/ بقلم: ناجح شاهين
ناجح شاهين

 

شكراً للرأسمالية، فقد أقامت علاقة "حرة" بين رأس المال والعمل البروليتاري، وأنشأت حالة من المواطنة القائمة على الذات الحقوقية المتساوية أمام القانون. ربما يكمن في عمق النظام استغلال معتم يحتاج إلى مجهر ماركسي لرؤيته، أما "شكلياً" على الأقل فإن الوقائع كلها تجري وفق القانون الشفاف الذي يحكم بالعدل بين الناس جميعاً. في نظم ما قبل الرأسمالية كان مزاج الحاكم أو صاحب العمل يحدد الامتيازات المسبغة على الفرد، ويخلق فجوات غير مسوغة بين شخص وشخص حتى لو كانا يقومان بالعمل ذاته. لقد تم إقرار مبدأ الأجر المتساوي لقاء العمل الواحد.

لحسن الحظ أن بلادنا الصغيرة التي لا يمكن وصفها بالرأسمالية بالمعنى الدقيق للكلمة قد نجحت في استدخال أسس هذا النظام. ولذلك فإن وظائف السلطة ووزارتها تستند إلى معايير شفافة وإلى وجود سلم وظيفي بدرجات محددة وواضحة بحيث يمكن لأي شخص أن يقدر بدقة تامة راتب الفراش مثلما راتب الوزير وصولاً إلى رئيس الوزراء. وهذا القول ينطبق إلى حد كبير على عمل مؤسسات رأس المال الكبيرة من قبيل البنوك والشركات الكبرى التي يخضع فيها نظام الأجور لسلم واضح ومكشوف للجميع.

أما المنظمات الدولية التي يستلهم عملها قطاع الأنجزة الفلسطيني فتعلن في وظيفتها طبيعة العقد والوظيفة والراتب الذي يستحقه من يشغلها. ولذلك يمكن أيضاً بسهولة معرفة الأجر الذي يتلقاه أي موظف فيها. لكن في الأحوال كلها يبدو في سياقنا الحداثي الرأسمالي المعاصر أن هذا هو الأصل في الأمور، إذ ما الداعي لكي يمارس أي شخص التكتم فيما يخص رواتب الموظفين؟

من المدهش بالفعل أن قطاع الأنجزة الفلسطيني بشكل عام يعد راتب الموظف سراً لا يجوز أن يطلع عليه أحد باستثناء الموظف نفسه ودائرة المالية التي تحول له مستحقاته الشهرية، وبالتالي فإن أحداً في المؤسسة لا يعرف رواتب بقية الزملاء، بل لا يستطيع حتى التنبؤ بشكل تقريبي بما يمكن أن يكون عليه ذلك الراتب. وفي هذا السياق تصبح الإشاعة هي المصدر الوحيد للمعلومة: فلانة سكرتيرة أنهت التوجيهية بنجاح باهت أو بدون نجاح ولكنها تتقاضى في المؤسسة الفلانية ألفي دولار. فلان يحمل درجة الدكتوراة ويقوم بالعبء الأكبر في المؤسسة ذاتها ولكنه يتقاضى راتباً يقل عن راتب تلك السكرتيرة بمئة دولار.

ليس من الصعب أن نقدر أن سياسية التكتم التي تمتاز بها بعض مؤسسات الأنجزة في مجال الرواتب إنما هي تعبير عن فساد يتم التستر عليه، وليس في ذلك مفاجأة لنا. إذ أننا لا نستطيع أن نثق أبداً في نزاهة هذه المؤسسات التي تعمل وفقاً لأجندات خارجية تسهم في اختراق الوعي الوطني المقاوم وتيسر التطبيع وتعميق التبعية. ولا بد أن ولاء مرتزقة هذه المؤسسات هو أولاً وأخيراً لليورو والدولار. ومن ناحية ثانية يغض الممول النظر عن فساد الأنجزة بأشكاله المختلفة لأن المهم بالنسبة له هو أن تقوم هذه المنظمات بتمرير أجنداته.

لا يمكن لعاقل إلا أن يستنتج بأن تكتم إدارات الأنجزة فيما يخص رواتب الموظفين إنما ينبع من وجود فساد تحرص على التستر عليه. ولو كانت نقية حتى من هذه الناحية الشكلية التي تخص توزيع كعكة التمويل الأجنبي لما ترددت مثلما يعمل سادتها القادمين من الشمال في تقديم سلم وظيفي واضح يسمح ليس بمعرفة الرواتب بين أبناء المؤسسة فحسب، وإنما اقتداء بالسادة القادمين من الشمال: الإعلان في الصحف عن المبلغ المالي المحدد الذي سيدفع لقاء الوظيفة المعلن عنها. لكنها في هذه الحالة قد تخون رسالتها القائمة على الخطابة الفارغة حول قيم النزاهة والشفافية والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان، والجوهر الفعلي القائم على بيع الروح لشيطان التمويل، وتمرير أجنداته من أجل الحصول على أكبر المكاسب المالية الممكنة.

بالطبع نحن لا نتحدث هنا عن أية نثريات أو بدل أسفار أو أنشطة أو علاوات استثنائية...الخ الخ وهي طرق معروفة لاستخلاص الكثير من المال الذي قد يزيد بأضعاف عن الراتب المعلن. نحن نتحدث فقط عن الراتب "الأساسي" ذاته الذي يختلف من شخص إلى شخص بطريقة غير مسوغة إلا في حدود ما يرغب الشخص أو الفريق المتنفذ، وعلى أية حال يرتدي موقع المحاسب أو مسؤول المالية في "المنظمات الأهلية" أهمية حاسمة بسبب أن ذكاءه الفهلوي أمر جوهري ل "تمرير" الالتفافات هنا وهناك باقصر السبل وأسهلها. لكنه يظل بالطبع أقل أهمية من دور كاتب "البروبوزال" الذي يجند الأموال، فهذا الأخير هو قلب المؤسسة النابضة الذي يضخ الدم في عروقها.

 لا مناص من ناحية بنيوية من لجوء "منظمات المجتمع المدني"، يا لبؤس الأسماء!؛ لا مناص أبداً من لجوئها إلى مقدار من "الفساد" يتراوح في حدته ودرجة سفوره من مؤسسة إلى أخرى. إنها ببساطة مؤسسات تتلقى مالاً أجنبياً لا يعرف أحد أبداً أنه يبني أي شيء في هذه البلاد التعسة باستثناء إضافة عناصر جديدة إلى فئة الأغنياء الذين يسبحون بحمد أوروبا ومقدساتها الديمقراطية والإنسانية التي تنبذ العنف والنوايا الإرهابية الشريرة تجاه "إسرائيل" بينما تشرع دون تردد معاقبة نظام الأسد عسكرياً بسبب عدم التزامه بمبادئ الممول حول حق تقرير المصير للشعب السوري والقانون الدولي الإنساني التي لا مكان للاهتمام بها ناهيك عن تطبيقها في فلسطين.