الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

قراءة في كتاب "المثقف القلق ضد مثقف اليقين" لـ خالد الحروب

2018-10-03 06:07:21 AM
قراءة في  كتاب
غلاف كتاب المثقف القلق

إعداد: محمد بدر بمشاركة رولا سرحان

يحتلُّ تعريفُ المثقف، لجهة المضامين والأدوار، هاجس المثقف العربي، الذي وإن حاول تقديم رؤية جديدة لنسق تعريفي لدور المثقف العربي، كما يفعل الدكتور خالد الحروب في كتابه "المثقف القلق ضد مثقف اليقين" الصادر عن دار الأهلية للطباعة والنشر (2018)، إلا أنه لا يأت بجديد، فهو يُعيد، وفقط، تسمية التعريفات التي كانت موجودةً أصلاً، وطرحها قبله، كتاب آخرون، من قبيل إدوارد سعيد، ومحمد حنفي، وجوليان باندا، أو عرف أدوارها غرامشي وحاول فلاسفة النصف الأول من القرن الماضي في المدرسة الفلسفية الفرنسية تقديم أنفسهم أنموذجا للمثقف ما بعد حداثي.

لقد فعَّل الحروب مقولة سارتر في تصديره لكتاب فرانز فانون "المعذبون في الأرض" حين قارن ما بين الأصل والاستعارة، فقال إن الأولين يملكون الكلمة بينما الآخرون يستعيرونها. فالحروب، وإذ يُحاول أن يفترض وجودَ مثقف "قلِقِ ومُقلِق" لا يركنُ إلى البديهيات أو المعطيات الموجودة كمسلمات في حركة المجتمع الذي يعيشُ فيه، في الوقت الذي يُزامِن هذا التعريف بضده عبر وجود مثقف "اليقين أو الموقِن" المسلم بالفكرة الأيديولوجية، أو بالوقائع اليقينية الجمعية كمسلمات لا يُسائلها، كا يورد في مقدمة المؤلف، (ص9)؛ فإنه، الحروب، ينسى تأصيلَ الأدبيات التي طرحت نفس التعريفات لنفس الفكرة التي يقدمها، ذلك وإن حاول الاسترشاد بها والتظلل بظلها لتقديم الكتاب كعملٍ بحثي.

تعريف الحروب للمثقف القلق، موجود في التعريف الفرنسي وبإضافات مهمة افتقدها الحروب، فكلمة مثقف في التعريف الفرنسي تعني "المستنير"، وهو الذي لا يتصف بالتقيد والتوقف ولا يفكر بجمود عقائدي، ويميز زمنه والأرض التي ينتمي عليها وموقع البلد الذي ينتمي إليه والمشاكل التي تطرح في مجتمعه ويستطيع تحليلها وتقديم الأدلة لها وتوضيحها للآخرين.

كذا الأمر بالنسبة ، لمفهوم إدوارد سعيد للمثقف، والذي يتمثل في ألا يكون داعية مُسالمة ولا داعية اتفاق في الآراء، لكنه شخص بحسب ما يرد في كتاب (صور المثقف، ص 59 ) يُخاطر بكيانه كله باتخاذ موقف حساس، وهو موقف الإصرار على رفض الصيغ السهلة والأقوال الجاهزة المبتذلة، أو التأكيدات المهذبة القائمة على الممالحات اللبقة والاتفاق مع كل ما يقوله وما يفعله أصحاب السلطة وذوو الأفكار التقليدية. ولا يقتصر رفض المثقف، على الرفض السلبي، بل يتضمن الاستعداد للإعلان عن رفضه على الملأ.

بهذا نرى أن إدوارد سعيد قد لخص في فقرة واحدة تعريف المثقف ودوره دون إطلاق ألقاب عليه، من قبيل المترادفات التي يزخر بها كتاب الحروب تسفيهاً للمثقف الذي يرفضه، من قبيل "المثقف المهرج، والمثقف المهادن، والمثقف الشعبوي، مثقف القطيع" والتي تندرجُ في مجملها ضمن توصيفِ جوليان باندا للمثقف في كتابه خيانة المثقفين.

وإن أردنا أن نطرح تحديداً لدور المثقف، فإنه لا يأتِ بمعزلٍ عن اللحظة التاريخية التي يعيشها، بل على أساسها تتحدد خصائصه والمسلمات التي يجب أن يحافظ عليها أو المسلمات التي يجب أن ينقدها، في إطار رؤية واعية لطبيعة القضايا الجدلية والحلول، فالمثقف الأوروبي الذي انحاز للجماهير ضد الاقطاعية في القرن السابع عشر، كان من الممكن التعرف عليه وتعريف دوره ورسم خصائصه من خلال اللحظة التاريخية والظروف العينية التي يمرّ بها مجتمعه.

و بما أن المثقف مرتبط بلحظته التاريخية، إذا بالضرورة أن يكون المثقف هو الإنسان الواعي بالتناقضات الاجتماعية والمسؤول عن تقليص فجوة المجهول وإدارة هذا الوضع المتناقض المشتبك، وتحمل المسؤولية التي تفرضها هذه المهمة، "ما يعني أن المثقف عليه أن يستمد أدوات عمله ومواده الخام من الحياة الاجتماعية لمجتمعه والتوقيت".

إن ما نريد أن نصل إليه، قد أوصلنا إليه الحروب ولكن بطريقة عكسية، ففي كتابه (ص 83) يتحدث الحروب عن ابن سينا والرازي كمثقفين مقلقين، وهنا مثلا نذكر أن ابن سينا والغزالي  اللذين عاشا في القرن الخامس والسادس هجري ورغم "قلقهما" الذي يتحدث عنه الحروب ــ على الأقل هو تحدث عن قلق ابن سينا ــ، إلا أن المجتمع بقي كما هو بنفس العبودية الفكرية والمادية واستمر الاقطاع،  والسبب فقط لأنهما تجردا من المجتمع، وهو ما دفع أحد المفكرين الإسلاميين للقول: "لو كان ابن سينا يحمل صفات أبي ذر (الانحياز للجماهير) لكنّا في حال أفضل اليوم" . في مقابل ابن سينا استطاع المثقف الأوروبي أن يخلص مجتمعه من الاقطاع لأن دوره كان في إطار قضية وحاجة اجتماعية. ويستحضرنا في أكتوبر، كذلك، ما قام به المثقفون الألمان من دور كبير في رفع معنويات السكان في "ثورة أكتوبر"، حتى أن المثقفين كانوا الموّلد الأساسي لحركة المجتمع والضابطين لإيقاعها.

وينقل الحروب عن تشومسكي قوله إن المثقف لا ينتمي لطبقة معينة، ويحاول الحروب التأكيد على أن المثقف غير المنحاز لا يتوفر في مجتمعنا وقد يتوفر في المجتمعات الغربية، رغم أن المثقف اصطلاحا، هي كلمة تطلق على فرد أو طبقة أو شريحة تقوم بعمل عقلي، فالمصطلح قد يتسع لطبقة خاصة إذا تحددت بخصائص معينة كما أشرنا سابقا. لكن وبعيدا عن الاصطلاح، فإن المثقف يجب بالضرورة أن يكون منحازا لقضايا وقيم وأفكار يرى فيها ــ من خلال دوره ورؤيته الاجتماعيان ــ رسالة تساهم في تطوير المجتمع واقعا وثقافة.

يصور الحروب قضية المثقف ككل على أنها لا تتعدى "ساحة الاشتباك الثقافي"، وكأن على المثقف أن يقضي وقته يتأمل ثم ينتقل لمهمة التشكيك والتفكيك، مغفلا دور المثقف في تمثيل الأصوات (القضايا) التي لا أفكار تثار حولها ولا كلمات. وفي الحقيقة، هذا تقزيم للدور ليس فقط لأنه تجريد للمثقف من مسؤوليته الاجتماعية وتقليص مبالغ فيه لدوره الحقيقي، بل لأنه وضع وحدد سقفا حقيقيا للمثقف ودوره، وذلك بحد ذاته يقينية ــ رغم انه يرفض اليقينيات ــ. حتى حين يتحدث عن التحولات التي قد تطرأ على المثقفين فإنه يعزو الأمر للانفتاح على الأفكار الجديدة، بإصرار حقيقي على تجاهل دور قضايا المجتمع في تكييف دور المثقف ودور المثقف في هندسة حركة المجتمع.

وبدلا من أن يرفض الحروب  يقينيات كبرى كالدين، فإنه كان من الأولى به أن يحدد هو كمثقف الدور الاجتماعي الخاص الذي يجب أن يؤديه الدين مستفيدا من الهالة الروحية للمجتمع. والمثقف  في مجتمعنا يجب أن يعي أن معركته مع يقينيات تختلف عن تلك التي كانت سائدة في أوروبا، دون أن يستنسخ أفكارا خاصة بأزمنة عينية، وأن اليقينيات تختلف من مكان لمكان. وهنا نطرح مثالا مهما على أهمية اليقينيات أحيانا وكيف يعمل المثقف الغربي على زعزعتها من خلال رؤية واعية لدورها، يقول جونيه لابون: "ينبغي أن نقسم منطقة شمال أفريقيا، ولكن كيف! اكتشفت أن نصف سكان شمال أفريقيا من الناحية التاريخية من البربر والنصف الآخر من العرب، وثم بعد عملية بحث اكتشفت أن أغلب البربر لديهم نزعة قومية حادة والعرب لديهم نزعة دينية حادة، لذلك يجب أن نطرح القضايا القومية والعلمية المعاصرة حتى نزلزل قاعدتهم الدينية، ويجب نشر الدين في الصنف الأول، يجب زعزعة اليقينيات الأساسية".

إن بعض نماذج التحولات عن اليقينيات، تثبت أن تفكيك اليقينيات ليس بالضرورة أمرا إيجابيا، خاصة وأن التفكيك يتم من خلال أدوات، والأدوات في النهاية مصّنعة، ومن الأمثلة على ذلك، يقارن دانييل ليندبرغ المحافظين الأمريكيين الجدد، الذين تحولوا من ليبراليين إلى محافظين جدد، بالمثقفين اليهود القادمين من اليسار، والذين أصبحوا مدافعين بلا قيد أو شرط عن إسرائيل وفقدوا كل معاني معاداة الاستعمار ومعاداة العنصرية. إذا ليس كل تحول عن اليقينيات إيجابي!

إن قيمة المثقف ودوره وتعريفه، يتأتى من خلال اعتراف الناس به والمجتمع وليس من خلال ما يصنع لنفسه من معايير. يتحدث جان بوتوريل في كتابه "أعزائي المحتالين" عن فرانسوا ميتيران والذي انتخب رئيسا للجمهورية الفرنسية، وتلقيه دعوة من مارغريت تاتشر لزيارة بريطانيا، وطلبه بأن يلتقي بعدد من مثقفي فرنسا، فكان رد مستشاريه "إنه لربما يجدون كتابا أو مؤرخين أو فلاسفة أو باحثين، ولكن ليس مثقفين"،  ويرى باسكال بانيفاس أن قيمة المثقف في فرنسا وهذه الملوكية التي يتصرف بها تنبع من كونه مساهما رئيسيا في القضايا الجدلية التي يخوضها المجتمع، وبالتالي فإن المؤرخ يقدم معرفة لكن المثقف يتقدم بواقع المجتمع إلى جانب تقديمه المعرفة، وفي النهاية فهو يحوز على اعتراف المجتمع.

فالمثقف بالأساس يجب أن يحصل على اعتراف المواطنين من خلال التزامه بقضاياهم والمخاطرة التي يخوضها ويجابهها ضد السلطة. وهو ما أشار إليه جوليان بندا في كتابه "خيانة المثقفين" باعتبار أن المثقف الذي لا يتجه نشاطه إلى نتيجة عملية هو خائن. ويعتب بندا أن البحث عن الحقيقة أساس يجب أن يوحد المثقفين. والمثقف الذي لا تطابق أفكاره وعمله التحرري، يجعل صداقته المعلنة للبشر عقيمة، بحسب تعبير بول نيزان.