أبدأ بنتنياهو.. بدا لي أن رئيس وزراء "إسرائيل" ومنذ اعتلائه منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، وإلى أن أنهى الخطاب كان يستعرض باللغة والحركات قدراته أمام سارة أولا، ثم الوفد الإسرائيلي ثانيا، ثم قاعدته الانتخابية في "إسرائيل" أخيرا.
كان الخطاب من حيث المساحة والتركيز إيرانيا، ويبدو أن كاتب سيناريو درامي هو الذي أعده، إلا أنه لم يخلو من السذاجة، إذ قام بتقريع أوروبا كما لو أنها عضو في المجلس الوزاري المصغر، وقام باستغباء الحضور جميعا حين استعان كمدرس ابتدائي برسومات توضيحية على لوحة مليئة بالألوان والأسرار المكتشفة، والأهداف الخطرة التي لم يكتشفها العالم بل اكتشفتها استخبارات نتنياهو الخارقة.
لا يوجد في خطاب نتنياهو ما يستحق التعليق عليه فيما يخص الوضع في الشرق الأوسط، إلا إذا اعتبرنا إعلانه عن إيجابيات الاتفاق النووي الدولي مع إيران، التي أدّى كما قال إلى شهر عسل تاريخي مع العديد من الدول العربية؛ إنجازا يستحق التباهي بل يكفي لنسف المعادلات القديمة من أساسها لمصلحة "إسرائيل" كما هي الآن وكما تطمح أن تكون في المستقبل.
وإنصافا لبعض الحقيقة، فقد قام الأمريكيون في اليوم التالي بتوجيه لطمة لخطابه، أو بتعبير أكثر واقعية قرصة أم لابنها، إلا أنه لم يأبه بذلك، فبوسعه وبوسع رجاله في الإدارة والكونجرس أن يخففوا أثر القرصة، بل وأن يعوضوه عنها ليس بقبلات على فمه بل بقرارات وإجراءات ضد خصومه الفلسطينيين.
خلاصة خطاب نتنياهو فيما يخص الوضع الفلسطيني هي تجاهل حد الإلغاء، وفي أفضل الأحوال انتظار لمدة شهرين أو ثلاثة كي يقرأ الموقف الفلسطيني والعربي من صفقة القرن التي إن صدق ترامب فستعلن رسميا ونهائيا خلال هذه الفترة، وعلى ضوء قراءته سيتخذ موقفا وسيكون حتما تأييدا لكل ما تريده "إسرائيل" ورفضا لكل ما لا تريده، وبوسعنا تخيل المدى الزمني الذي سيستغرقه إقناع نتنياهو بتليين موقفه من الذي لا يقبله .
أبو مازن.. انتظرت يومين كي أقدم قراءتي لخطاب الرئيس عباس، لعل الاحتفالات التي سبقته ورافقته تهدأ، فهنالك بديهية تقول إن الاحتفالات لا تفسح المجال للقراءة الموضوعية، ذلك أن المحتفلين بالخطاب قبل أن يعرفوا محتواه هم مع أبو مازن مهما قال ومهما فعل، وهذا هو حال الاستقطاب الداخلي الحاد بل هذا هو قانونه الوحيد.
لقد أرهق الخطاب من قبل من يقدمون أنفسهم على أنهم ينطقون باسم الرئيس وهم ليسوا كذلك بالفعل، وارتفعت التوقعات والأسقف، فالمؤيدون التلقائيون صمموا خطابا تمليه حاجة السوق، حتى إن بعضهم استخدم مفردة القنبلة التي ستنفجر وتهز أرجاء العالم، أما المعارضون فقد صمموا حملة تنطلق من الرفض المسبق لكل ما سيقول حتى لو كان آيات من الذكر الحكيم، وفي كلا الحالتين خضع خطاب الرئيس إلى قوانين الاستقطاب والصراع الداخلي وليس إلى قوانين التحليل الموضوعي.
انطلاقا من ذلك، وبعد أن تابعت الأدبيات الصاخبة للمؤيدين والمعارضين سأحاول الاجتهاد بتحليل موضوعي للخطاب.
اللغة والمضمون...
الرئيس عباس استخدم لغة عالية النبرة في انتقاد أمريكا و"إسرائيل" وحتى المجتمع الدولي صاحب آلاف القرارات التي لم يطبق منها أي قرار، غير أن النبرة العالية لم تخف استعدادات الرئيس لعودة العلاقة مع أمريكا إذا ما عدلت آلياتها، وقد دلها على الطريق إلى ذلك داعيا إياها أن تعمل مع اللجنة الرباعية وهذا أفضل وأجدى من عملها المنفرد، فاللجنة الرباعية أساسا هي صناعة أمريكية وتجميدها أو تقليص دورها إلى ما فوق الصفر بقليل هو أيضا صناعة أمريكية.
كذلك أعلن الرئيس وبأكثر اللغات صراحة أنه لم ولن يغادر التفاوض رغم التنكيل الإسرائيلي وحتى الأمريكي بهذا الخيار، ومثلما قال في باحة الإليزيه "نحن نريد التفاوض ونسعى إليه، إلا أن نتنياهو هو الذي لا يريد".
كذلك وفيما يتصل بالعلاقة مع "إسرائيل"، لم يقترب الرئيس عباس من حقل الألغام الذي وإن انفجر ففي وجوهنا فقط، مثل إلغاء اتفاق أوسلو الذي أعدمته "إسرائيل"، ووقف التنسيق الأمني الذي رعته وما تزال الولايات المتحدة، وإن لوح بسحب الاعتراف بإسرائيل وخصوصا بعد تنصلها من أوسلو والتي جعلت السلطة بلا سلطة، وأصدرت تشريع قانون أساس بيهودية الدولة بما يحمله من إشارة ذات مغزى جذري تجاه حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، فإسرائيل نتنياهو تتصرف كما لو أن الاعتراف الفلسطيني لا يعني شيئا سواء بقي أم لم يبق.
فنتنياهو لا يعتبر اعتراف أوسلو كافيا بل يريد اعترافا أكثر سخاء أي بيهودية الدولة، وهذا إن رفضه ما يقارب الخمسين بالمائة من الإسرائيليين فكيف يراهن منطقيا على أن يقبل به عباس.
كذلك وفي مضمون الخطاب وليس في لغته رسالة إلى "إسرائيل"، كان واضحا أن الرئيس أخذ في الاعتبار وهو يصوغ خطابه، لقاءاته مع مستويات عدة من تركيبة النظام الإسرائيلي والمعارضة، وبعض قادة الأجهزة الرئيسة هم من صلب هذه التركيبة، حتى السجين المطلق سراحه قبل انتهاء محكوميته إيهود أولمرت والسيدة ليفني التي هي الآن رئيسة المعارضة، رسالة قال فيها بأكثر العبارات وضوحا "ولا قطعة سلاح غير شرعي في كل الأرض الفلسطينية التي يفترض أن تكون أرض الدولة" والمعني هنا غزة قبل الضفة، ولو كان في "إسرائيل" قيادة مسؤولة راغبة حقا في سلام وأمن حقيقيين فماذا تريد أكثر من ذلك؟.
أما بالنسبة لحماس التي أقامت الدنيا ولم تقعدها على أرضية أن عباس ضالع في صفقة القرن، وعملت كل ما باستطاعتها لهز شرعيته وإظهاره كما لو أنه يمثل جزءا وربما تقدمه على أنه الجزء الأقل، فقد أخطأت كثيرا بل وكثيرا جدا، ذلك أن العالم ما يزال يعتبر عباس رئيسا شرعيا للفلسطينيين ولن يتحدث مع غيره في أي شأن فلسطيني صغر أم كبر، واعتقد أن على حماس أن تقرأ جيدا فصل التهدئة الذي أغلق ثم كيف أغلق ولماذا، كما أن عليها أن تدقق في حكاية صفقة القرن وموقف عباس منها، فلو كان معها أو متواطئا لتمريرها لوفر له الأمريكيون ما يقويه ويمكنه من التفوق على خصومه الداخليين.
إنني أنصح حماس أولا ليس فقط بوقف خطابها الاتهامي الذي يجافي أبسط قواعد المنطق، بل وأن تتخذ قرارات تقنع الشعب الفلسطيني بأنها تلتزم قولا وعملا بشرعية واحدة وسلطة واحدة وهدف وطني واحد وعلى حماس وفتح قراءة الخطاب الأخير الذي ألقاه جرينبلات في نيويورك أمام اجتماع المانحين، حيث وحد المبعوث الأمريكي فتح وحماس في جملة ذات دلالة عميقة حين قال "كلاكما الواحد أسوأ من الآخر" هذا ما قاله، أما الذي يعمل عليه دون أن يقوله صراحة، إن هنالك بدائل.
أخيرا لم يحدث في تاريخ القضية الفلسطينية الطويل أن وصل حال أهلها إلى مثل هذا الحال، وإذا كان كل ما يظهر الأمريكيون والإسرائيليون وكل ما يبطنون يضرب جذور القضية في صميمها ويهدد بتصفية نهائية لها، فبأي وجه يقابل الفلسطينيون الأصدقاء والأعداء وهم لا ينقسمون فقط بل يعمقون انقسامهم كل يوم، ويجعلون وحدتهم أصعب بكثير حتى من تحرير وطنهم.