الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

ثرثرة الأموات لـ الكاتبة: هند زيتوني

قصة قصيرة

2018-10-05 05:23:28 PM
ثرثرة الأموات
لـ الكاتبة: هند زيتوني
هند زيتوني

كان يلقب نفسه بملك الملوك، ويحكم مدينته بالحديد والنار. وقد كان رجلاً ضخماً، له عينان ثاقبتان، وجبهةً عريضة، وشاربان كثيفان، وشفاه غليظة... كان منظره مرعباً، يخشاه الكبير والصغير، ولا يستطيع أحدٌ أن يخالف قوانينه.

وفي أحد الأيام تجوّل في مدينته، برفقة وزيره المخلص، ليعرف أخبار الناس، فأنبأه الوزير بأن الأموات في مدينته يخالفون القانون، ويتجاوزون التعليمات التي كُتبت في اللوائح، والتي علقها  جنوده في كلّ مكان؛ حيث كتب بخطٍّ عريضٍ: (ارقدوا وأغلقوا أفواهكم بدون كلام ولا تحلموا بالعودة إلى الحياة).

قال الملك لوزيره:اسرد لي بالتفصيل، ماذا فعل هؤلاء الحمقى؟ وكيف جرؤوا على مخالفة القوانين التي وضعتها لهم لحماية هذه البلاد من الانهيار والفساد؟

كان الوزير رجلاً نحيلا، طويل القامة، يخلو وجهه من معالم الذكورة، وتميل بشرته إلى اللون الأصفر، وكان يتلعثم بالكلام أحياناً عندما يستجوبه الملك.

هتف الوزير بصوتٍ مرتجف:

موْلايَ.. لقد أخبرني حارس المقبرة، الذي جعلته يخضع للاستجواب الصارم، بأنّ الموتى يقومون من قبورهم كل يوم بعد صلاة المغرب، ويجتمعون في الساحة الصغيرة، ويثرثرون، وينتقدون كثيراً من الأشياء التي صادفتهم في الحياة التي عاشوها.

كيف؟ لم  أفهم ماذا ينتقدون…؟

مولايَ.. إنهم غاضبون كثيراً؛ لأن حارس المقبرة كان يوقظهم في موسم الانتخابات، كي يدلوا بأصواتهم!

وما المشكل؟ ألسنا نحقق العدل بذلك؟ نحن نريد من الجميع أن ينتخبوا، الأحياء والأموات، فهم سواسية، ولا فرق بينهم لكي لا يقال بأننا نفرّق بين الناس! وبأننا نتجاهل بعض الأصوات! ونفرض أنفسنا بالقوة! كل صوت مهم في هذه المدينة، سواء كان صاحبه حياً أو ميِّتاً…! كلُّ طفل، كل امرأة، كل شاب ورجل، الجميع يجب أن يُؤخذ صوتهم بعين الاعتبار!

تباً لهم من جهلةٍ هؤلاء الميتين! لقد اعتبرتهم أشخاصاً مهمين، ومنحتهم كل الحقوق الإنسانية، فهم لا يستحقون أي شيء سوى التراب.

نعم يا مولايَ.. جلالتُك تحقق العدل بعينه… حفظك الله ورعاك لهذا الوطن المقدّس.

اسكت.. ولا تنبس إلا عندما أسألك.

العفْو يا مولايَ، لن أكرر هذا الخطأ.

أتْمم.. على ماذا يعترضُ أيضاً هؤلاء المجرمون…؟

يا مولايَ: لقد سمعت من حارس المقبرة بأنهم كانوا يعترضون على القوانين والضرائب، والموت المبكر بسبب قلة الغذاء والدواء، والأبنية الآيلة للانهيار، والشوارع المحفورة، وانقطاع الكهرباء والماء، وعدم وجود مدارس ولا جامعات جيدة ولا مراكز بحوث، وغلاء المعيشة، وقلة الرواتب، وعدم توفر متطلبات الحياة الأساسية، وانتشار الجوع والفقر والجهل والخطف والسرقة والبطالة و...

زمجر الملك:

اخرس أيها السافل، كيف تجرؤ أن تعيد على مسمعي هذه الافتراءات والإشاعات المغرضة…؟

عفواً مولايَ، والله لم أقصد الإساءة لهذا الوطن المبجل والقوانين العادلة التي فيه. لكن أنا أعيد ما سمعه حارس المقبرة من هؤلاء الأموات الحقراء، ناكري الجميل. وحدْسي يقول يا مولاي بأن ذلك الحارس العجوز قد تقدم بالعمر، وأصابه الخرف، وقد جلدته مئة جلدة جزاءً على كذبه وبهتانه.

جلالتُك أعلم بالحقيقة، وسيد العارفين… هل من الممكن أن يتحدث الأموات…؟ هذه حتماً إشاعة كاذبة.. الأحياء فقط الذين يتحدثون ويثرثرون، وسنقوم بسجنهم وتعذيبهم، ثمّ التحقيق معهم إذا بقوا على قيد الحياة.

صاحَ الملك غاضباً:  

نعم، الأموات يتحدثون يا غبي… وأنا أراقب الجميع، وسأعاقب كل الخونة ومروجي تلك الإشاعات الكاذبة والمغرضة.. وأنت أولهم.. أنا أرصد كل نفسٍ يصعد في الهواء، وأعرف النملة أين تذهب، وماذا تخبئ في جحرها… ماذا تظن؟ أنني لا أفقه شيئاً؟ أو أنني غارقٌ في الملذات، تاركٌ هذا الشعب والوطن للضياع…؟

لا يا مولايَ، جلالتُك شخْصٌ اجتمع فيه الذكاء والعدل والحكمة.. جلالتُك ملك لن يكرره الزمن.

قلت لك اصمت، ولا تتحدث إلا إذا سألتك يا جاهل…!

حاضر يا مولاي.. المعذرة.

لم ننته بعد من التحقيق، ماذا قال الأحياء..؟ هل راقبتهم يا غبي..؟

اطمئن يا مولايَ، اطمئن.. لقد قمنا بمراقبتهم تماماً، ونعرف جيداً كم مرة يتنفّس الفرد؟ وكم مرة يدخل إلى الخلاء لقضاء حاجته؟ ولقد قال مُخْبرونا الذين تم وضعهم في كل مكان وزاوية وسطح في هذه المدينة بأن  الناس الأحياء سعداء جداً جداً، ومن فرط السعادة أصبحوا يخافون من هادم اللذات، ويتمنى الفرد منهم لو يحيا ألف عام! على عكس ما يقوله هؤلاء الأموات الكاذبون، ناكرو المعروف والجميل.

انطق بسرعة، ماذا يقولون…؟ وإلا قطعت رأسك الآن ورميته للكلاب…

الرحمة يا مولايَ… سأقول… والله سأقول!

انطق يا غبي… ولا ترتجف كالدجاجة المذبوحة!

يا مولاي، لقد قال أحد أفراد هذا الوطن السعيد بأنه فرح لأنه يأكل الخبز المبلل بالماء كل يوم فلا تصيبه الجلطات والأمراض التي تسببها الأكلات الدسمة واللحوم، وينام مبكراً لأنه لا يوجد كهرباء في منزله، ولذا فهو لا يسمع الأخبار الكاذبة ولا يشاهد الأفلام الخليعة والمسلسلات الفاسدة التي تُشجع على قلة الأدب والحياء. كما اعترف أحدُهم حسب تقاريرنا بأنه أسعد رجل في العالم لأن أولاده مطيعون جداً ويحترمون آباءهم؛ فهم ليس لديهم هواتف نقالة لتفسد أخلاقهم وتجعلهم عبيد تك الآلة اللعينة التي خرّبت عقول البشر، ولا يجلسون وراء شاشات الحاسوب ليتابعوا أفلام الجريمة والفساد، ولا يهدرون وقتهم الثمين الذي هو مِلْكٌ لهذا البلد.

 وقال رجل آخر إنه أسعد زوج بالعالم، لأنّ زوجته لا تخرج كثيراً من البيت، فهي لا تملك المال لتذهب إلى الأسواق فتشتري أشياءً تافهة، تاركة منزلها وأطفالها بلا رقيب، هي تُفضّل أن تزرع الخضار والفواكه، وتربي دجاجة واحدة كل سنة، يأكلونها ويستعملون ريشها لصنع المخدات، وتخيط ثوباً لها كل عشرة أعوام. 

والأهم من هذا، لا أحد يشتهي طبق الموت؛ فرجالنا يقدمونه لهم بالمجان أحياناً.

ابتسم الملك ابتسامة صفراء وأردف:

غريب هذا الأمر! أ لهذه الدرجة هم سعداء، وينعمون برغد العيش، والعالم مقبل على مجاعات كثيرة، والاقتصاد ينهار كل يوم؟!

مولايَ، المعذرة… سنقوم بسياسة التقنين قريباً؛ وسنمنع عنهم الدجاج الذي يأكلونه خِفْيَةً.

الآن ستمنع أيها الأحمق؟ بعد أن بدّدوا أموال الدولة، وأهدروا الموارد البشرية، وخالفوا القوانين واللوائح…؟

والله يا مولاي كنت أراقبهم جيداً، ولكن هؤلاء المجرمين كانوا يستيقظون في الليل ليقوموا بتلك الأعمال الممنوعة، كتربية الدجاج، والتخطيط لتربية الخرفان والأبقار في المستقبل.

اخرس… لا أريد أن أسمع صوتك… أنت لم تعد تصلح لخدمة هذا الوطن السعيد، وستجلب لنا الكوارث والأزمات الاقتصادية والإفلاس المبكّر.

الرحمة يا مولاي… والله سأنفّذ أوامركَ بالحرف، وسأكون صارماً وحازماً، وسأجلدهم، وأعلمهم كيف يحترمون القانون، ولا يبذرون أبداً، وأن يحافظوا على البيئة.

لقد تأخر الوقت كثيراً، أنت وزير مهمل، ولَم تقم بواجبك الوطني تجاه بلدك، تركت المواطنين يسرحون ويمرحون على راحتهم كالأغنام، ولَم تنجح في أَخْذهم على احترام القانون وتنفيذه، وبهذا خلقت الفوضى وبددّت الموارد البشرية.

نادى الملك على الحرس:

أيها الحرس خذوا هذا الوزير الفاسد، واربطوه بسلسلة طولها سبعين ذراعا، وارموه في السجن ليتعذب، ثم اقطعوا رأسه وارموه للكلاب... هذا جزاء من يبدد أموال الدولة والشعب.

بكى الوزير، وانتحب، واستغاث حتى أغمي عليه، ومات من الرعب.

جاء الحرس، سحبوا جثة الوزير، هتفوا: 

يحيا العدل.. يحيا العدل...