الفَراشات التي طارَت من جوفِ إلهةٍ حنطيّة دجليّة العينين حطّت على سِتارة الغرفة السّوداء جدًا، ستارة الغُرفة حليبٌ أسود اللّون كحليب إيليف شافاق وغياث المدهون، الفَراشات التي تفتّحت في ثلاثة أيام، واندلعت في السّتارة حينَ فتحت -الإلهة الحنطيّة، دجليّة العينين ذاتها- فمها في الثلث الأخير من اللّيل، ونطقت بأربعة أحرفٍ فقط، أربعة أحرفٍ وأكملت رسالتها فينا -كدرويش-. الغرفةُ مرتع القرود الجائِعة، مأوى الشياطين الهاربة من أطراف الأرض، وطلقات السّماء التي تصطاد عشاءً متأخرًا، مستنقع الضّفادع والوجوه المزيّفة تحوّلت إلى أرضٍ مقدّسة، حقل أزهار، ملاءات ورد، جدائِل نورٍ مقصّف، ومنذُ ذلك الوقت، وأنا لا أتعرّف عليّ إلّا عندما أقف عاريًا أمام المرآة، المرآة التي كانت بحجم جدار، لكنّها ظلّت تصغر يومًا بعد يوم حتّى أصبحت بحجم قبضة يد، والقلب كما تقول الأساطير بحجم قبضة اليَد، ذلك القلب الذي يذكُرني عندما ينساني الجميع، والذي يترك ملامح الجسد وبحّة الصوت والتماعة العينين الغريبة ويذكرني أنا، كيف يذكرني بكلّ هذا اليقين، وأنا لا أنفكّ عن الظن، وأنا "أراني بالظنّ" حتّى؟!
لستُ هُنا لأكتب عن الأنا، ولا عن ديكارت وابن سينا والغزالي، ولا عن الفرق بين الروح والنّفس والتقسيمات الأخرى، لكنّني أحاول أن أستعدّ لدورة شتوية هادئة، تمازجت فيها الفراشات مع السّتارة، والحروف الأربعة مع شفتيّ، هربت فيها خيالات الوحدة، لصالحِ خيالاتٍ أخرى أكثر دفئًا، أكثر واقعيّة، رغم اختلاط الفنتازيا بالواقعيّ، أكثر وضوحًا رغم الغبار المندسّ في نظارتي، أكثر نبضًا رغم بتر ثلاثة أصابع من قلبي، قلبي قبضة اليد، يدي التي تصغُرُ التفاحة التي أخرجت آدم وأدخلتني، يدي التي لا تنبضُ بسهولة، يدي المهترئة لفرط الاستخدام، لفرط التّجربة، لفرط الثقة بالحبال والسّلالم، يدي الممزّقة في محاولة اغتيال، يدي التائِهة، الحانية بلا مقابل، ثابتة التفاصيل، يدي ترتدي الآن فصل التّغيير، فصلًا أخيرًا من المحاولة.
مرّة تخيلتُ نفسي نايًا، إنّه رفيع جدًا، وأنا وكذلك، هو مليء بالثّقوب وأنا الثقوب كلّها، لكنّ فرقًا جوهريًا أفسد عليّ الأمر أنّ صوته لا يُشبه صوتي، وأنّني رغم الثقوب المنظّمة التي تملأني كومة نشازٍ كبيرة في إبرة، أوتارٌ أكلها الصّدأ وجبة غير مشبِعة، إضافة إلى أنّ الناي ليسَ له يد، وأنا لي يدٌ بحجم قبضة القلب، أكرر بتوتر.
عليّ أن أعترفَ أنّني أفكّر وبعد هذا الاعتراف السادِس أن أتخلّى عن الفكرة، لأنّ الاعترافات فكرة ليليّة محضة، تأتي بعد منتصف اللّيل، لكنّني ومنذ اعترافين أكتبُ في النّهار، لأنّ أحدًا ما على ما يبدو سرقني من السّقف، والثريا المدوّرة، والمسمار، وأعترف أنّني فرحٌ بهذه السّرقة نوعًا ما، فرحٌ بسرقةٍ لا تَكتُبُ ولا تُكتَب، تسرّ لي باعترافها قبل النّوم، وأنساه في الصّباح، أو لا أتعمّد كتاباته، لأنّني لم أتخلص بعد من عقدة الكتابة باسم الآخرين، رغم تسلّل أفكارهم كالفراش إلى ستارتي اللّغويّة، ورغم أنّهم -والجمع للتّعظيم- دخلوا إلى تعاسَتي اللّغويّة صورًا مركّبة لا مفردات، وأنا لا أعرف فعلًا مفردات الفرح، والحب، والمدح، فهل تصلح لغتي الناقصة من "نشيد الإنشاد"، ومن "الصورة الخصوصيّة للسيّدة مايا"، أن تكتبَ عن المواضيع ذاتِها، هل أصلحُ لممارسة الحياة بنصفي المسخ، هل شهقت إلهةٌ بي حقًا وأخرجتني من شرايين البنفسج نصفَ مسخٍ أو نصفَ إله؟.
عليّ أن أشير وبشكلٍ لا يقبل التأجيل أنّ لفظ إله لا يرتبط بالمعنى المعروف بالضّرورة عند الديانات، عليّ أن أشير أنّ القداسة فكرة روحيّة جدًا يمكن أن تُسقط على شجرة، أو صورة فقيد، أو هديّة من غائِب، أو كلمة، أو عينين، عليّ أن أشير إلي أنّني ممتنٌ للصورة التي فوق رأسي، لصديقي الذي نصحني بقراءة قايين، لشارعٍ محدّد، لموعدِ إطلاق كتابي الأصفر الخريفيّ، ممتنٌ لي أنّني ما زلت أستطيع، أحاول، أعتلي جبل التّجربة ولو ببطء أو بجنون، ممتنٌ لحبّة بازيلاء شيخة نبتت بالقرب منّي ودعتني للصّعود، الصّعود اللامحسوس، الصّعود الذي أعي أنّه يسبق السّقطة المدوية، الصّعود على السلالم الحجريّة مورّدة الخدين، الانتظار حتّى اللّحظة الأخيرة للوعي، للثالثة والنّصف فجرًا، لانفلاتِ الحياة من الأسفل إلى الأعلى، ممتن لي/لنا/لها/ لهم/لهنّ لأنّني ما زلتُ أستطيع التّنفس!.