من المعرفة يولد السُّؤال، لا من الجهل، فالسُّؤال هو ابن المعرفة، ثمرتها، وكلَّما تكشَّفتْ خيوط المعرفة، تفتَّحت آفاق الأَسئلة في متلازمة لانهائيَّة تقود إلى هستيريا، أَو وباء معرفيٍّ قلِق، يزيد من مستوى الأَلم، والمعاناة، لكنَّه، مع ذلك، لا يترك مجالاً للعارف -الَّذي صار يُدرك مدى جهله، وأَنَّه ليس عارفاً- لالتقاط أَنفاسه.
من الجواب الواحد يُولد أَلف سؤال، وسؤال...لهذا بالذَّات، حين حاول برناردشو أَن يتهكَّم على آينشتاين، ونظريَّته، ويستفزَّه، وأَخبره أَنَّ العلم يخلق المعضلات بدلاً من حلِّها، لم يشعر آينشتاين بالاستفزاز، بل إنَّه راح يشرح حقيقة هذا الأَمر، فشبَّه الجهل بدائرة مظلمة، كبيرة، والعلم بدائرة مضيئة أَصغر، كلَّما تحرَّكت الدَّائرة المضيئة، وتوسَّعت، توسَّعتْ معها الدَّائرة المظلمة، وأَصبحت أَكبر.
هل يعني ذلك أَنَّنا نلاحق السَّراب؟
فكرة "منطق الطَّير" لفريد الدِّين العطَّار النيسابوري، حول الطُّيور الَّتي تبعت الهدهد، وراحت تسأَله، وتحاوره، حتَّى بلغت الوديان السَّبعة، السَّبيل إلى الكمال، وصولاً إلى الأَزليِّ، والذَّوبان فيه، ربَّما تشبه رحلة البشريَّة في سعيها الدَّائب نحو المعرفة، وقد تلخِّص الأَديان هذه الفكرة أَيضاً بطريقة فريدة، إذ تجعل الميل نحو المعرفة مسأَلة فطريَّة، تأسَّست على الفضول الأَوَّل، منذ آدم وحوَّاء اللَّذين أَكلا من شجرة المعرفة، وصارا جزءاً من الذَّات الإلهيَّة الَّتي تميِّز بين الحقِّ والباطل، والخير والشرِّ، ما دفعهما إلى التعدِّي على شجرة الحياة، بحثاً عن الخلود، فطردا من الجنَّة، ومنذ ذلك اليوم، ثمَّة "كروبيم" يقيم شرقي جنَّة عدن، يحرس الشَّجرة بلهيب سيف متقلِّب، ولا شكَّ أَيضاً أَنَّ برميثيوس سارق النَّار، في الأَساطير الإغريقيَّة، جزء لا يتجزَّأُ من فكرة البحث الدَّائب عن الكمال، وبلوغ مرحلة الإله، بالمعرفة المطلقة، لذا أَنزل به زيوس أَشدَّ عقوبة قد تخطر ببال إله.
إذن فرحلة الإنسان منذ بدايته هي رحلة السُّؤال...والبحث، رحلة المعرفة، والبشريَّة، تبعاً لذلك تسير في تطوُّر دائب، واختراعات، واكتشافات لا تُعدُّ، ولا تُحصى، والمعرفة مسأَلة فطريَّة، فأَوَّل ما يبدأُ به وعي الطِّفل هو السُّؤال، يتصاعد هذا السُّؤال، أَو يتناقص، ويخمد، حسب الظُّروف المحيطة، وطبيعة المجتمع.
لا شكَّ أَنَّ البشريَّة تناوبت عبر تاريخها على التَّراكم الحضاريِّ، المعرفيِّ، وأَنَّ الشُّعوب ساهمت بطريقة أَو بأُخرى، في هذه المعرفة، بدءاً من الحضارات القديمة، الهنديَّة، والصِّينيَّة، والآشوريَّة، والبابليَّة، والإغريقيَّة، والفرعونيَّة، وغيرها، مروراً بحضارة الإسلام، ووصولاً إلى حضارة الغرب، لكنَّ الثَّابت أَيضاً-إن جاز لنا أَن نسميه ثابتاً- هو أَنَّ شعوباً، وأُمماً، عبر هذا التطوُّر، والتَّراكم المعرفيِّ الَّذي يشبه كرة الثَّلج، فقدت صلتها بالحياة، وشعوباً اندثرت مع لغاتها....
التقيتُ مؤخَّراً بأُستاذ للتَّاريخ، من ذلك النَّوع السِّيزيفيِّ، أَعني الَّذي ظلَّ خمسة وعشرين عاماً يدرِّس للطلاَّب المادَّة ذاتها، دون أَن يزيد عليها شيئاً، أَو يأخذ منها شيئاً، كان يحفظ منهاجه عن ظهر قلب، لكنَّه لا يعرف شيئاً آخر في التَّاريخ، ولا يجتهد فيه، وليس مولعاً به، وإنَّما يعتبر نفسه يؤدِّي وظيفة فقط.
سأَلني عن مفهوم الكوانتم، فرحتُ أَشرح له، محاولاً تبسيط الفكرة، وفي نهاية المطاف، استوقفني، مدهوشاً، وتساءل عن جدوى الخوض في مثل هذه الأَفكار المعقَّدة، الَّتي كانت-حسب رأيه- لا تسمن ولا تغني من جوع، إذ إنَّنا في نهاية الأَمر نعيش، بها، وبدونها، وأَنَّها لن تضيف شيئاً إلى حياته، ولن تأخذ منها شيئاً أَيضاً.
ذلك الأُستاذ، لا شكَّ، يمثِّل فئة ليست قليلة في المجتمع، تتَّصف بالكسل الفكريِّ، أُولئك الَّذين يفضِّلون العيش على هامش الحياة، بانتظار مخلِّص سيأتي في زمن ما، كي يُخرج الأُمَّة من أَزمتها، وأَنَّ الأُمور كلَّها مرتبطة بهذا المخلِّص، وحين سأَلته عن مواصفاته راح يروي لي تاريخ عمر بن الخطَّاب، وصلاح الدِّين الأَيُّوبي الَّذي حرَّر القدس من الصَّليبييِّن.
ثمَّة شروط للبقاء...للاستمراريَّة على هذه الأَرض، وهي أَن تحقِّق الحدَّ الأَدنى من شروط الحياة، صحيح أَنَّ هناك شعوباً تأخذ على عاتقها صناعة الحضارة عبر التَّاريخ، وأَنَّ هناك شعوباً تعيش على هذه الحضارة، وشعوباً على هامش هذه الحضارة، ولكنَّ الصَّحيح أَيضاً أَنَّ هناك أُمماً قد انقرضتْ، ولغات قد تربَّعت على رفوف النسيان، ولم يعد ثمَّة من ينطق بها، لأَنَّها فقدت الصِّلة الَّتي تربطها بعربة البشريَّة، ولم تعد قادرة على اللَّحاق بها.
لا أُمَّة فوق الاندثار....ومنها هذه الأُمَّة الَّتي نحن منها، إن لم تحقِّق شروط البقاء، شروط الاستمراريَّة، واللَّحاق بركب الحضارة، فهي ذاهبة إلى الموت، بالضَّرورة، والموت هنا ليس موتاً حرفيَّاً، بل هو موت معرفيٌّ، وبالتَّالي هو موت ثقافيٌّ، اجتماعيٌّ، سياسيٌّ، الخ...يجعل الأُمَّة تفقد شكلها، وحدودها، ومزاياها، وماهيَّتها، وتذوب في أُمم أُخرى.
ثمَّة اتِّكاء على التَّاريخ، اتِّكاء مقيت، مقصود، مدروس، مموَّل، فالعلاقة مع التَّاريخ ليست علاقة تراكميَّة، إنَّما هي علاقة عبوديَّة، لقد توقَّفت الحياة في نقطة ما، في هذا الجسد، وقام النَّاس بتحنيطه، وما فتئوا يطوفون حوله، في حالة عبادة غريبة، مؤمنين بأَنَّ الحياة ستعود لتدبَّ فيه من جديد.
لا أَحد تقريباً من هؤلاء قادرٌ على أَن يتخيَّل أَنَّه كلَّما زادت الفجوة بيننا وبين الحضارة البشريَّة، زادت احتمالات فنائنا كأُمَّة، وذوباننا، متَّكئين، ضمن مفهوم خاطئ تماماً على الموروث الإسلاميِّ بالذَّات، على بعض الآيات القرآنيَّة، كالآية الكريمة: "كنتم خير أُمَّة أُخرجت للنَّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" آل عمران/110.....وعلى الآية الكريمة:"إنَّا نحن نزَّلنا الذِّكر وإنَّا له لحافظون" الحجر/9.
ثمَّة انقلاب في الفهم، والثَّقافة، والدَّلالات، والمفاهيم، واللُّغة الَّتي تعاني من الانحطاط والتَّغريب، فاللُّغة أَيضاً تشيخ، وتمرض، وتموت، وما يجري الآن أَمام هذا الانفتاح المبهر، والعولمة الثَّقافيَّة، وصراع الحضارات، موت مفردات مقابل ولادة مفردات أُخرى، تتراكم ببطء عبر الزَّمن، وستنتج ذات يوم لغة غريبة بشكلها، ومفاهيمها، ودلالاتها، ما لم يتم الانتباه إلى ذلك.
ثمَّة فجوة هائلة صارت تفصل بيننا وبين المعرفة البشريَّة....تتزايد كلَّ يوم، نتيجة للتَّسارع الهائل الَّذي شهدته البشريَّة خلال قرن واحد فقط....أَصبحنا خلالها شعوباً مستهلكة، مُستعبَدة، محتلَّة، تتفاخر بجهلها إلى درجة الوقاحة، وكأَنَّها بذلك تتلذُّذ في جلد ذاتها، ولا تملك ما تتغنَّى به إلاَّ الماضي الَّذي على أَحد ما، أَن ينهض بكلِّ شجاعة ليعلن بصراحة أَنَّه لا يعود، أَبداً، وأَنَّ دورة الحياة تتقدَّم إلى الأَمام، ولا تعود إلى الخلف، صلاح الدِّين لن يعود، وعمر بن الخطَّاب، لن يعود، علينا أَن نبحث عن أَسماء جديدة، موجودة بيننا، تحمل صفات جديدة، وأَفكاراً تنهض بهذا الواقع المهترئ بناء على ما قطعته البشريَّة من أَشواط، كي نضمن بقاءنا، واستمراريَّتنا، إذ ثمَّة في الطَّرف الآخر، وأَعني الصُّهيونيَّ بالذَّات، صاحب المشروع النَّقيض في المنطقة، من يغذِّي فكرة البقاء في مستنقع الماضي، كي لا يكون لنا حاضر ولا مستقبل.