"إن الدم الفلسطيني، مثل الدم اليمني، مثل الزيت الفلسطيني محدود القيمة في السوق العالمي، لذلك يجب أن نصحح ميزان هذا السوق المائل لنحقق لحياتنا ومنتجات روحنا وعقلنا وعمل أيدينا ما تستحقه".
التغطية الإعلامية الفلسطينية من اليسار إلى اليمين إلى الوسط تصيبني بالكآبة، كأن المهم أن يقنعونا بأن هناك حشوداً كافية، أو أن الاحتلال شرير أو أن التحرير على مرمى حجر، وهي قصص متناقضة فيما بينها؛ بعضها يستجدي الشفقة الغربية المصابة بالسكتة الدماغية، وبعضها يريد التباهي بالأعداد التي تشارك في المظاهرة أو المسيرة، كأن وجود الأعداد الكبيرة هو الهدف النهائي لما يحدث.
أتذكر بإشفاق هتاف الجماهير المصرية الساذج: "الملايين أهم، الجزيرة فين؟"، وجاءت الجزيرة "صانعة الثورات" وذهب مبارك، وظل النظام المبارك بحلة شابة تتقن الإنجليزية، وما تغير في مصر على الأرجح أي شيء على الإطلاق. وقد انتهى الأمر في خاتمة المطاف بتبرئة محاكم النظام الجديد/القديم لكل المتهمين في قضايا الاضطهاد والفساد وغيرها.
ليس المهم الهليلة الإعلامية، المهم ما يجري فعلاً، وكيف يجري، نزل الناس في مصر إلى الشارع دون أن يكون واضحاً لهم ماذا يريدون، ولذلك تمكن من يعرف الاتجاه، وهم الإخوان، ثم الشريحة الثانية من نخبة النظام نفسه، من العودة بالمركب إلى نقطة انطلاقها الأولى.
تتحدث قنوات مثل "فلسطين اليوم" التابعة للجهاد أو "القدس" التابعة لحماس أو القائد الفلاني أو المناضل العلاني عن استشهاد البطل س أو ل... على طريق تحرير فلسطين، هل هذا هو هدف واقعي يسوغ لإعلام مقاوم أن يعبئ به الشارع؟ وماذا عندما تتبخر الأحلام؟ هل تصبح الفرصة سانحة مثلما حصل في 1939-1948 ثم في 1982، ثم في 1993 ثم في 2003 لتقدم العدو نحو المزيد من الإنجازات، والانكفاء إلى مساحات أقل، وقبولنا بما كنا نرفضه منذ بعض الوقت؟
لا بد أن النوايا الشجاعة مهمة، ولكنها بدون عقل ثوري خلاق ومبدع لا تقود إلا إلى التهلكة، رفع الشعارات الصحيحة، مع توضيح كيفية تحقيق الأهداف الواقعية الممكنة، وتحديد الأطراف التي لها مصلحة في النضال، وفرز الغث من السمين، كلها أمور غاية في الأهمية. أما خلط الحابل بالنابل فيستفيد منه في النهاية سادة اللعبة، خصوصا الاحتلال نفسه.
لكن ما يحز في النفس أن تنتهي الاستراتيجية الفعلية إلى سقف "رفع الحصار" عن غزة، على الرغم من عدم استهانتنا أبداً بمعاناة الغزيين الظالمة جراء الحصار، وفي المقابل نتوهم أن الغزيين يعلمون أن الضفة محاصرة، ولكن قيودها أقل إحكاماً لأسباب سياسية. ولا بد أن الضعط على غزة يهدف إلى أن تصل بدورها إلى "العتبة" السياسية المقبولة إسرائيلياً وأمريكياً. وهو ما يسوغ لنا أن نتساءل: هل مبادلة الدم في غزة بشيء من الضجيج الإعلامي مبادلة عادلة؟ أم أن كل شيء في بلادنا يجب أن يتم تبادله بسعر ظالم لا تكافؤ فيه؟
خطر ببالي هذا التساؤل ونحن نعيش كرنفال الزيتون والزيت السنوي، وهو كرنفال يرتبط أشد الارتباط بفكرة القداسة الفلسطينية والاستقلال الاقتصادي...الخ، ولعل الكثير منا يدرك بدون جهد كبير أن الزيتون هو السلعة الاقتصادية الأهم في "فلسطين" بعد أن خسر عنب الخليل الكثير من أهميته جراء المضاربة الإسرائيلية. ولكن الزيت بدوره يتعرض لعملية تبادل ظالمة في سوق مصمم سياسياً واقتصادياً و"ثقافياً" لكي يقلل من قيمة الزيت ويعلي من شأن المنتجات المستوردة.
ينتج مزارع فلسطيني مثلما قالت لي ابنته نحو عشرين تنكة من الزيت سنوياً.
عشرين تنكة، الصبية الصغيرة كانت مسرورة.
خطر ببالي أن هذا المقدار من الزيت يباع عادة بما مقداره 2000 دولار أمريكي (تقريباً 8000 شيكل).
ولا بد أن الحراثة والعناية ومعاناة القطف ذاتها لا تقل عن نصف ذلك المبلغ. يعني في النهاية تنكة الزيت قيمتها الصافية تقترب من 200 شيكل ، أو ما يوازي "كروز" دخان أمريكي، أو زجاجة ويسكي يتم استيرادها من بريطانيا.
تنكة الزيت طبعاً تكفي الفرد أكثر من سنة، بينما السجائر والويسكي تستهلك بشكل أوسع بكثير، وربما أن الفرد الذي يستهلك تنكة زيت في السنة يستهلك زجاجة ويسكي كل أسبوع، وفي حالات متطرفة كل يوم. فهل يعود سعر الزيت البخس مثلاً إلى أن الزيتون سلعة متاحة ومتوفرة أكثر بكثير من الويسكي أو السجائر؟ بالطبع لا.
هناك زيت آخر وهو النفط يباع البرميل منه (11 تنكة) بستين دولاراً فقط لا غير، وتباع التنكة الواحدة من البنزين بحوالي أربعين دولاراً. يعني نحن الأعراب نبيعه بسعر بخس ونشتريه مكرراً بأضعاف ثمنه.
روى لي أخي الذي عاصر أيام "البلاد" أن أحدا من أبناء قريتنا "زكريا" ذهب إلى المدينة -الخليل أو الرملة، لا أذكر هذا التفصيل- وباع إناء ضخماً من اللبن يقارب حجمه الأربعين لتراً بعشرة قروش.
وبعد أن صلى الظهر تجول في شوارع المدينة فسمع أحدهم ينادي "ياغورت، ياغورت" فاشترى كأساً من اللبن الذي يدلعه البائع باسم ياغورت بثلاثة قروش.
صدم الرجل عندما وجد أنه لبن، وقال والله إن طعمه يشبه طعم لبن بقرتنا السمراء.
بالطبع هناك احتمال فعلي أن الرجل قد اشترى من اللبن الذي باعه في الصباح.
ليست القيمة في الأشياء مطلقة مثلما نتوهم أحيانا.
بمعنى لو كان الويسكي إنتاج فلسطين أو العراق لتم تدمير سعره التبادلي في السوق العالمي، وهكذا فإن مشروب العرق مثلا رخيص باعتباره منتجاً عربياً، بينما المنتجات القادمة من مركز الرأسمالية تكون غالية الثمن والقيمة، ويتم إضفاء الهيبة والسحر عليها.
البروكلي سعره نار.
أما الزهرة فهي رخيصة.
بالطبع السبب أن البروكلي باشا ينتج في كاليفورنيا، ويتم إحاطته بأساطير صحية لا حصر لها مع أنه شكل من أشكال الزهرة ولا فرق بينهما.
ليس الاقتصاد الرأسمالي حراً أبداً، تتم تهيئة الظروف و"إعداد السوق" ليكون مربحاً لفريق ومدمراً لفريق آخر. وهذا ما يسميه مجموعة من المفكرين من "جماعة" نظرية النظام العالمي بالتبادل اللامتكافئ.
كل زيت فلسطين يكاد لا يشتري شاحنة ويسكي أو شحنة بروكلي.
لكن هذا بالطبع ينطبق على الدم فليست الدماء سواء، وقد شاهدنا كيف تنساق وسائل الإعلام إلى متابعة تفاصيل ما جرى لجمال خاشقجي في قنصلية بلاده في تركيا، بينما يمر الآلاف من الضحايا اليمنيين بدون حساب، وهذا ينطبق بالطبع على ضحايا فلسطين في غزة وسلفيت ونابلس والدهيشة والعروب إلى آخر القائمة.
إن الدم الفلسطيني، مثل الدم اليمني مثل الزيت الفلسطيني محدود القيمة في سوق "القيمة" العالمي، ولا بد أن علينا نحن أن نصحح ميزان هذا السوق المائل لنعطي لحياتنا ومنتجات روحنا وعقلنا وقلبنا وكد أيدينا ما تستحقه.
كل موسم زيتون ومزارعنا المكشوف غير المغطاة بأية حماية أو رعاية بألف خير، وأهلا بزيتنا طيب الرائحة واللون والمذاق، والمجد لدماء الشهداء التي تراق على مذبح الحرية والاستقلال كما نحلم ونأمل، وليس على مذبح تحريك الاهتمام المحدود هنا أو هناك، فقد مللنا لعبة التحريك بدءاً بالمحرك الأول محمد أنور السادات مروراً بالمحركين العرب في الخليج، وانتهاء بالمحركين الفلسطينيين الأذكياء.