الحدث ــ إسراء الصفدي
الغيمة السوداء فوق مخيمات مدينة صيدا جنوب لبنان لم ترحل.. وبات الدخان المتصاعد في كل جولة عنف جديدة عامل استدلال على الواقع الفلسطيني السيء في مخيمات ذاق أهلها الويلات، جراء خلافات فصائلية وتصفية حسابات عن طريق التدمير والتهجير. ريثما عاد الهدوء والإستقرار إلى مخيم عين الحلوة بعد مقتل هيثم السعدي على يد محمد العرقوب، انتقلت نيران المواجهة إلى مخيم المية ومية الواقع على تلة شرق مدينة صيدا، حيث اندلعت اشتباكات عنيفة بين حركة أنصار الله وحركة فتح أدت إلى مقتل إثنين من عناصر حركة فتح وهما محمد عيسى وأحمد منصور، وإصابة أكثر من 25 شخصا بينهم مندوب حركة حماس للجنة الشعبية إبراهيم سلامة وعدد من المدنيين.
الإشتباكات التي استخدمت فيها القذائف الصاروخية والأسلحة الرشاشة اتسعت رقعتها مساء الإثنين، وأصيب منزل في بلدة سيروب المواجهة للمخيم بقذيفة صاروخية دون وقوع إصابات، كما طال الرصاص منطقة الفوار القريبة من المخيم، وسقطت قذيفة في بستان القدس بمخيم عين الحلوة أدت لإصابة أحد الأشخاص بجروح. حركة نزوح كثيفة شهدها المخيم باتجاه المناطق المجاورة الآمنة هربا من رصاص القنص والقذائف التي أطلقت بشكل عشوائي، فيما بقيت عشرات العائلات داخل منازلها بعد عدم تمكنها من الخروج لكثافة النيران، وناشد السكان الفصائل الفلسطينية عبر مكبرات الصوت في جوامع المخيم، بضرورة وقف إطلاق النار لإخراج النساء والأطفال، فأعطيت هدنة لمدة نصف ساعة عملت فيها الطواقم الصحية على إخراج المحاصرين بسيارات الإسعاف.
كما وأدت الإشتباكات إلى أضرار مادية جسيمة في المنازل والمحلات التجاربة، وضعف حركة التجول في مدينة صيدا وإقفال جميع مدارسها حرصا على سلامة الطلاب. تحركات الفصائل فور اندلاع الإشتباكات بدأت الفصائل الفلسطينية بإجراء إتصالات مع حركتي فتح وأنصار الله لتهدئة الأوضاع ووقف إطلاق النار. وكانت الجهود واللقاءات السياسية والأمنية الفلسطينية واللبنانية التي بذلت على أكثر من صعيد قد تمكنت من التوصل لوقف إطلاق النار وسحب المسلحين من الشوارع عند الساعة التاسعة والنصف ليلا . إلا أن قرار وقف إطلاق النار لم يصمد لأكثر من ساعة، فعادت الإشتباكات بوتيرة أعلى حينا وبشكل متقطع حينا آخر، وبقيت أصوات القذائف الصاروخية والرشقات النارية تسمع حتى بعد منتصف الليل في المخيم، مما شكل ضربة لقرار وقف اطلاق النار الذي تم التوصل اليه برعاية حركة حماس.
عضو القيادة السياسية لحركة حماس في لبنان والمسؤول السياسي لمنطقة صيدا ومخيماتها أيمن شناعة أكد للحدث، أن خرق التهدئة وعدم التزام الطرفين بقرار وقف إطلاق النار سيجر المخيم إلى جولة أكبر وأعنف من الإشتباكات، الأمر الذي تسعى الفصائل الفلسطينية ومسؤولين لبنانيين إلى عدم حدوثه. وأوضح شناعة أن الإشتباكات كانت قد اندلعت على خلفية إشكال وقع بين عنصر من حركة فتح وآخر من حركة أنصار الله، وتطورت إلى تبادل لإطلاق النار ما لبثت أن توسعت وامتدت على أكثر من محور.
ممثل حركة الجهاد الإسلامي في لبنان إحسان عطايا، استنكر ما وصفه بالإقتتال العبثي في مخيم المية ومية للاجئين الفلسطينيين جنوب لبنان. وقال عطايا في حديث مع الحدث، إننا لا نناشد ولا نطالب بمجرد وقف إطلاق الرصاص، بل نقول إن ما يجري يخدم صفقة القرن، ويخدم مؤامرة تصفية القضية الفلسطينية.
مصادر أمنية لبنانية أكدت لصحيفة الحدث، تثبيت وقف إطلاق النار بدءا من ظهر الثلاثاء، وذلك بعد تدخل الجيش اللبناني بقوة على خط الاتصالات واللقاءات والاجتماع الذي عقد في ثكنة الجيش في صيدا، مشيرة إلى أن خروج قرار وقف إطلاق النار من داخل ثكنة الجيش يعتبر رسالة إلى جميع الفصائل الفلسطينية دون استثناء، بأن الوضع بلغ خطوطه الحمر ولم يعد هناك مجال للتمادي بهذا الشكل، والسكوت عن العبث بالوضع الأمني في مخيم المية ومية وفي منطقة صيدا بأي شكل من الاشكال. وأضافت المصادر أنه خلال الاجتماع تم الاتفاق على تولي حركة حماس عملية الفصل بين الطرفين، ثم تسليم المتسببين بالإشكال من الطرفين "فتح" و"أنصار الله" إلى مخابرات الجيش، على أن يعاد إحياء القوة الأمنية الفلسطينية المشتركة.
خلاف فتح وأنصار الله
الإشتباكات في مخيم المية ومية لم يتفاجأ بها أهله، فكانت متوقعة في أي لحظة بعد استنفارات عديدة شهدها المخيم لطرفي النزاع منذ أشهر، نتيجة اتهام زعيم حركة أنصار الله جمال سليمان حركة فتح بمحاولة إغتياله عن طريق أحد المقربين منه ويدعى بلال زيدان. الحادثة هذه وقعت قبل أشهر، بعد اتهام سليمان مرافقه وأمين أسراره بلال زيدان بالتنسيق مع مسؤول الأمن في حركة فتح منذر حمزة لاغتياله، فاعتقله وبدأ التحقيق معه لمدة أربعة أيام، ثم جرت تصفيته بعدما علمت استخبارات الجيش اللبناني بالأمر وطلبت التحقيق مع زيدان رسميا. قتلُ زيدان على يد حركة أنصار الله زاد من غضب المؤسسة العسكرية اللبنانية على زعيم الحركة جمال سليمان، فانتشر الجيش اللبناني على الطرقات التي يمر منها وانتشرت المعلومات الأمنية عن التحضير لاعتقاله بأية طريقة.
ظهور حركة أنصار الله
بدأ زعيم الحركة جمال سليمان نشاطه في بداية الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 ضمن مجموعات تشكلت لمهاجمة الاحتلال الإسرائيلي، والدفاع عن مخيم عين الحلوة، وخلال هذا الوقت ترأس مجموعة أطلق عليها محكمة شهداء عين الحلوة لإعدام العملاء. انضم سليمان إلى حركة فتح عام 1985 بعد انسحاب الاحتلال وتسلم منطقة جبل الحليب في مخيم عين الحلوة، ثم شارك في المعارك التي اندلعت بين الفلسطينيين وحركة أمل، وقاتل حزب الكتائب والقوات اللبنانية اللذان حاولا التسلل إلى المخيم.
اتجه جمال سليمان نحو محور حزب الله وإيران بعد المصالحة بين حركة فتح وحركة أمل حيث جرى تجنيده لصالح حزب الله مع قياديٍ آخر يُدعى محسن الحلاق. وأصبح جمال سليمان الذراع العسكرية الفلسطينية للحزب في مخيم عين الحلوة وأسس حركة "أنصار الله" التي تمددت إلى مخيمات البص والرشيدية، وعُيِّن بشكل غير رسميّ الرجل الأول للحزب في المخيمات برتبة الحاكم الآمر والناهي في مخيم المية ومية شرق صيدا حيث معقله الرئيسي بعد مغادرته عين الحلوة.
في عام 2014 قتل سليمان في وضح النهار القيادي في حركة فتح أحمد رشيد وستة من رفاقه، والمسعف الفلسطيني طارق الصفدي دون أن يحاسب على ذلك. وبعد فترة وجيزة اتُهِم أيضًا بقتل القيادي الفتحاوي فتحي زيدان الملقّب بال"زورو" بواسطة عبوّة ناسفة على طريق المية ومية وحي الأمريكان. وقبل نحو سنتين ثبت لدى جهاز أمن حركة فتح أنّه حاول اغتيال المسؤول في الاستخبارات لديها في سفارة لبنان إسماعيل الشرّوفي. إذا.. كل تلك الأحداث فاقمت الخلاف بين حركة فتح وأنصار الله، وبدأ كل طرف يسعى للقضاء على خصمه والسيطرة على المخيم، وهو ما برز خلال الاشتباكات التي اندلعت وتوقفت دون تقدم لأي طرف وبقاء الوضع على حاله. وقف إطلاق النار رحب به أهالي المخيم، ولكن يتخوفون من تكرار ما حدث، وأن تكون هذه الاشتباكات جولة أولى من عدة جولات قادمة حتى حصول كل طرف على مصالحه، كما حصل مؤخرا في حي الطيرة بمخيم عين الحلوة.