الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

حول "المثقف القلق"... قراءات يقينية وتقولية/ بقلم: خالد الحروب

2018-10-25 12:22:08 PM
حول
خالد الحروب

 

مراجعات الكتب التي يغلب عليها الارتجال تحرجُ أي مؤلف يقع كتابه (أو كتابها) ضحية مراجعة من هذا الصنف، إذ تحشره الحيرة أمام موقفين: إما مواجهة ذلك الارتجال والرد عليه وتبيان أوجه خلله على ما في ذلك من إضاعة للوقت ومساجلة في غير مكانها، وإما إهمال ذلك كله والتغاضي عنه وبالتالي منح تلك المراجعات بشكل مباشر أو غير مباشر رخصة البقاء من دون نقد وكأنها تقول كلمة الفصل في الكتاب قيد المراجعة. الموقف الثاني المُترفع يعني التسامح مع التسطيح والقبول بالكتابة الارتجالية كمعيار لتقييم الأفكار والكتب وسوى ذلك. ويظل موقف الانخراط في الرد عليها هو الأفضل لأنه يساهم في إنتاج سجال معقول همه الأساسي إعلاء سوية النقاش وتصويبه نحو المتن لا الهامش، الأفكار لا كاتبها. مناسبة هذه الكلمات اطلاعي على مراجعتين لكتابي الأخير "المثقف القلق ضد مثقف اليقين" رأيت أنهما ينتميان إلى كتابة التسطيح، الأولى قراءة من "إعداد محمد بدر بمشاركة رولا سرحان" ونشرت في 3 أكتوبر 2018 في صحيفة "الحدث"، والثانية نشرها عمر الغول في موقع "أمد" بتاريخ 10 أكتوبر 2018.

ابتداءاً وأولا، علي أن أقول إنني ممتن للزملاء الثلاثة على اهتمامهم بالكتاب ومراجعته والانتباه إليه، وما سيرد في هذه السطور لا ينتقص من احترامي الشديد لهم، لكنه ينتقد وبموضوعية كما آمل نصوص المراجعات التي نشروها مبينا أسبابي. وأضيف ثانياً أن جوهر كتابي يتحدث عن مثقف قلق غير يقيني وغير متشبث بأفكاره بل يخضعها للسياقات المتبدلة، وهو غير مؤدلج أو منغلق على نفسه وتصوراته، وعليه وانطلاقاً من هكذا تعريف فلا أقل من أطبق هذا التعريف على نفسي، وأقول بأنني لا أتمسك بتعصب وعماء بأي فكرة واردة في الكتاب بل أكون سعيدا بنقاشها وإعادة تأملها بل والتخلي عنها كلياً في حال تغيرت قناعتي بها. على ذلك فمقالتي هنا ليس هدفها الدفاع المستميت ولا حتى غير المستميت عن الأفكار التي وردت في الكتاب، بل تتركز حول مناهج القراءة المتسرعة والتناول الانتقائي، وجل النقد هنا موجه ضد "منهج" إطلاق الأحكام على أي كتاب من دون قراءته كما يتبدى لي في المراجعتين، وضد "ممارسة" تقويل الكتاب وتقويل المؤلف فيه ما لم يقله أصلا ثم الشروع في نقد وتقويض ذلك "التقويل" بكل بسالة ممكنة! في ذلك أولاً وآخرا تضليل، غير مقصود، للقارىء الذي لم يطلع على الكتاب أصلا.

في المراجعة الأولى لـ محمد بدر ورولا سرحان، هناك حرص شديد على القول بأن الكتاب لم يأتِ بجديد وإن ما ورد فيه مجرد تكرار لمقولات ونظريات كتاب ومفكرين آخرين. لا مشكلة لي مع هذا الحكم المُطلق فهذا رأي الزميل والزميلة وحقهما في إبدائه وتبنيه. لكن عندي مشكلة كبيرة إزاء "كيفية" الوصول إلى هذا الحكم والمقتصرة على اقتباس التعريف الموجز والسريع لـ "المثقف القلق" من المقدمة واعتماده للحكم على الكتاب من دون الانخراط في فصوله، وخاصة الفصل الخامس الذي يتوسع في التعريف وفي تقديم مرتكزات ومعاني "المثقف القلق". يوحي ذلك الحكم الإطلاقي بأن أياً من الزميلين لم يقرأ الكتاب كله أو على الأقل ذلك الفصل المركزي، قبل أن يطلق الحكم بتكرار ما ورد في الكتاب أو جدته. في التنظير الوارد في الكتاب، وتحديدا في ذلك الفصل، هناك تفكير في معنى "المثقف القلق" يطرح بتوسع مكونات أساسية في مضمونه مثل "اللأدرية" و"التناقض" و"اللاتمركز"، وهي برأيي (الذي أرحب بمخالفة الزميلين فيه) الإضافة الجوهرية التي تفرق هذا المثقف عن "المثقف الناقد". ويجادل الكتاب أن هذا الأخير، أي "المثقف الناقد"، قد يقع مع مرور السنين وتكلسات الزمن في شرك نقيض أو أكثر من تلك السمات، فيتورط في: الأدرية المطلقة (اليقين)، أو النزعة الخفية في الدعوة إلى التنميط والانسجام، أو في التمركز على الذات والإحساس بامتلاك الحقيقة كونه يمتلك القدرة على تصويب النقد تجاه الآخرين كلهم، سواء أكان هؤلاء "الآخر" الجمعي أو "الذات" الجمعية. ويذهب النقاش في ذلك الفصل للقول بأن سمات المثقف القلق المذكورة تلك توفر تحصينا وتطويرا للمثقف الناقد وحماية لدوره الناقد أساساً.

وهنا أكون في غاية الامتنان لو تكرم علي الزميل والزميلة ودلاني على كاتب أو مفكر أو كتاب تعرض لهذه المكونات بكونها ما يحدد قلق "المثقف القلق" وبكونها ما تفرقه عن غيره، أو إن وجدا فيها تكراراً لما اطلعا عليه في السابق. أما التعرض لأنواع المثقفين الأخرى في الكتاب مثل "المثقف العضوي" و"المثقف اليقيني" و"المثقف الناقد"، فقد كانت قراءات تمهيدية تبني النقاش للوصول إلى "المثقف القلق" الذي أعتبره التطور الأهم والمطلوب لـ "المثقف الناقد". على ذلك لم أملك إلا التبسم إزاء حكم آخر للزميل والزميلة الكريمين تجاه النقاش الذي شمل أنواع المثقفين حيث لم يريا فيه سوى محاولة مني "... لتقديم الكتاب كعمل بحثي"، فربما كانت هناك مناهج بحث وأكاديميا يتقنها الزميلان ولم أطلع عليها. لكن عموما، أن تفوت مسألة بدهية مثل نقاش ما قد صدر في موضوع معين ثم وصله بالفكرة قيد البحث عن نص مراجعة كتاب يتصدى لنقاش الأفكار يعني قصور نص المراجعة عن فهم الارتباط العضوي في الكتاب أولاً، وفي النقاش الأوسع ثانيا، وهو مع الأسف من سمات القراءة العجولة والانتقائية.

أيضا، يقوم الزميل والزميلة بتقويلي ما يلي: "يحاول الحروب التأكيد على أن المثقف غير المنحاز لا يتوفر في مجتمعنا وقد يتوفر في المجتمعات الغربية"، ولا أعرف من أين جاءا بهذه الفكرة. وثمة واحدة من الأفكار التي ناقشتها في الكتاب قد تكون التبست على الزميلين وهي أن النظرة إلى المثقف نظرة طوباوية تجعله متعال عن المجتمع وغير خاضع للإكراهات بكل أنواعها تبقى نظرة مثالية، لأن المثقف في نهاية المطاف ابن المجتمع والحياة، ومضطر للتعايش والتفاوض مع إكراهاتها، لكنه يحاول أن يقلل من ضغطها وتأثيرها فيه. ثم يتابع الزميلان تقويلي امراً آخر، فيكتبان: "... يصور الحروب قضية المثقف ككل على أنها لا تتعدى "ساحة الاشتباك الثقافي" وكأن على المثقف أن يقضي وقته يتأمل ثم ينتقل لمهمة التشكيك والتفكيك، مغفلاً دور المثقف في تمثيل الأصوات (القضايا) ...". ومرة أخرى لا أعرف من أين جاءا بهذه الفكرة، ولا جواب عندي إلا توقع وتقدير عدم قراءة الكتاب كاملاً ولا حتى جزئياً بل انتقاء واجتزاء بعض الصفحات والفقرات من هنا وهناك. فموقفي إزاء هذه "القضية" وكما أكرره  وأشدد عليه من دون لبس من المقدمة وإلى نهاية الكتاب، هو أن المثقف القلق مثقف سياقي منخرط في التغيير الاجتماعي ومهموم به على الدوام.

بل ولدحض أية فكرة قد تخطر على بال أي قارئ تجاه موقع المثقف القلق إزاء القضايا التي تواجه مجتمعه فإنني ختمت الفصل الخامس بنقاش محدد تحت عنوان "هل المثقف القلق مثقف ما بعد حداثي؟" وفيه وضحت بما لا لبس فيه بأن المثقف القلق هو غير المثقف الترفي (ما بعد الحداثي، وخاصة في السياق الغربي) الذي يبدو منفصلا عن الواقع، وغارقا في التفكيك من دون إعادة تركيب. ليس هذا فحسب بل إن القسم الثاني من الكتاب مخصص بالكامل لسجالات وانخراط في الواقع المعاش وفي القضايا الفكرية التي تواجه مجتمعاتنا ودولنا، تحت عنوان "قضايا قلقة"، وهو القسم الذي لم يُشر إليه في المراجعة على الإطلاق. ويتضمن هذا القسم عناوين فرعية منها "السؤال المزمن: العلاقة مع الغرب"، "درويش والعظم: بين لاعب النرد وصانع النرد"، "ابن رشد ومارتن لوثر في حوار التمدن"، "الخصوصية الثقافية توحد الاستشراق وخصومه"، "في الاسلاموية وتحولاتها وإشكالاتها"، "الحل الاسلاموي والحل العلماني"، "العلمانية ضرورة عربية للسلم الأهلي"، "الديموقراطية: عبقرية إدارة الكراهيات في المجتمع"، "العرب والمحرقة: رؤية إنسانوية وعقلانية"، "مؤرخ المستقبل وعرب اليوم"، "السلطان عبد الحميد وفلسطين: الخرافة والقداسة المزيفة"، "إما الداعشيات السنية والشيعية أو العلمانية". ولا أعرف كيف توصل الزميلان إلى فكرة قصر تعريفي للمثقف القلق بأنه مثقف لا علاقة له بالواقع والقضايا، فلو تصفحا على الأقل قائمة "المحتويات" في الكتاب وتأملا في عناوين القسم الثاني التي قدمت لها تعبيرات قلقة وتجسدات لمثقف قلق مهجوس بالواقع وليس بالخيال، لوصلا إلى نتيجة أخرى.

ينتقل الزميل والزميلة أيضاً إلى تقويلي فكرة ثالثة، فيكتبان: "وبدلا من أن يرفض الحروب يقينيات كبرى كالدين، فإنه كان من الأولى به أن يحدد هو كمثقف الدور الاجتماعي الخاص الذي يجب أن يؤديه الدين ...". ومرة أخرى لا أعرف من أين جاءا بهذه الفكرة، وفي أي جزء في الكتاب وجدا هذا الرفض من قبلي لـ "يقينيات كبرى كالدين"؟ لكن المسألة مرة أخرى متعلقة بالفهم لا غير، فما أذكره في الكتاب وانتقده بشدة هو يقينيات المثقف اليقيني، وهذا المثقف اليقيني وأقولها وأكررها بوضوح قد يكون مثقفا دينيا، أو ماركسيا، أو قومياً، أو موقنا بفكرة محددة مثل "السوق الحر" أو "الطائفة" إو بفكرة دعم السلطة والنظام الذي يؤيده دعما مطلقا ويقينيا، ولا أقصر اليقين على نوع واحد المثقفين. وفي مقاربات القسم الثاني انتقدت دمج الدين بالسياسة وقلت إن نتائج ذلك هو ما نراه من دول وتنظيمات وأحزاب تحكم وتذبح وتدمر باسم الدين، وإن فصل الدين عن السياسة هو بداية التعافي للاثنين. وهذه بطبيعة الحال فكرة مفتوحة على النقاش والنقد والنقض ايضاً. لكن ما يضاعف من تسطيح المراجعة الارتجالية هو أن الزميلين وبعد كل تقويل من تلك التقويلات يشرعان في نقد وتقويض ما تقولاه عن الكتاب، الأمر الذي أشعرني بأنهما يناقشان أفكارا خاصة بهما أو أفكارا أخرى، استفدت منها بحق، لكن لا علاقة لها بكتابي.

الزميل عمر الغول بدوره أدهشني هو الآخر بقراءة متعجلة ومبنية، وكما يقول بإقرار يُشهد له في مقالته، ليس على قراءة الكتاب بل على استماعه لمداخلتي في الندوة التي نظمتها مشكورة الجامعة العربية الأمريكية قبل أسبوع من نشر مقالته. هناك تشابه كبير بين قراءة الغول وقراءة بدر وسرحان خاصة لجهة تقويلي ما لم أقل، وهناك فداحة أكبر لأن الزميل الغول لم يتصفح الكتاب أصلا ومع ذلك لم يتردد في تدبيج مقالة تدور في جلها الأكبر عن ما ورد فيه! يقول الغول "تركز الحديث حول المثقف وإشكالياته... واختلاف المدرستان الألمانية والأنجلوساكسونية بين المثقف التجريبي والمثقف العضوي"، ولا أعرف من أين جاء بهذه الفكرة، فلم يتعرض الحديث للتفريق بين هاتين المدرستين فضلا عن أن يتركز حولهما، كما لم ترد لفظة "المثقف التجريبي" لا في مداخلتي ولا في كتابي، إضافة إلى أن "المثقف العضوي" كمفهوم وتعريف ينُسب إلى المفكر الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي وليس إلى إي من تلك "المدرستين"!

ثم يتابع قائلا: "... فإن مخرجات الحروب اعتمدت على المدارس الغربية حيث تَبَنى السائد المفاهيمي في مدارسها، ولم يحاول إعمال العقل لمحاججة مفهوم المثقف القلق". بجملة واحدة يُفلت الكاتب حزمة من المطلقات التسطيحية المدهشة، ويقول بأني اتبنى السائد المفاهيمي في المدارس الغربية رغم أنه استمع إلى أن تنظيري للمثقف القلق استند في جزء كبير منه إلى التقليد العربي الإسلامي في القلق. لكن استعراضي لتعريفات المثقف المتنوعة في الأدبيات المختلفة والذي جاء للتمهيد لنقاش المثقف القلق فهمه الغول على أنني "أتبنى المدارس الغربية". والأغرب من ذلك قوله: "لم يحاول إعمال العقل لمحاججة مفهوم المثقف القلق"، ترى ما الذي أعملته إذن خلال محاججتي تلك؟ هل أعملت العاطفة مثلاً، أم أعملت التأمل الصوفي ثم طرحت ما طرحت، أم ماذا؟ وبعد ذلك يواصل الغول افتعال نقاش طلاسمي محير، يدفعني للظن بأنه لم يتابع أو يفهم على وجه الدقة ما ورد في الندوة إذ يقول "كما أن اعتماد التعريف الرائج حاليا من وجهة نظر الكاتب باعتبار المثقف هو المثقف الناقد فيه أيضا قصور. لأن المثقف وبغض النظر عن مدرسته هو مثقف ناقد، كونه يدافع عن منطلقاته المعرفية الوضعية أو الدينية ويحاجج متسلحاً بالنقد". لم أعرف أين القصور في وجهة نظري وكل ما كنت أقوله وأكرره هو أن المثقف الحقيقي هو المثقف الناقد في الجوهر، وأن المثقف الناقد عماده وجوهر تعريفه هو ديمومة النقد أولا وآخراً!

ومرة أخرى يواصل الزميل الغول لعبة التقويل، ولو بحذر مشكور عليه، مشيرا إلى مسألة أخرى فيقول: "... وحسب قراءة الكاتب فإن المثقف العربي جاء في ذيل القائمة العالمية (وإن لم يقلها (أي الحروب) تماما بالنص، غير أن النتيجة التي خلص لها، هي كذلك) من حيث المكانة والكفاءة على تمثل الدور". وهذا تماما عكس موقفي الذي عبرت عنه في الندوة وأوردته في الكتاب. وفي الحالتين قلت وكتبت أن المثقف العربي اضطهد وعذب وسجن وأحيانا أعدم على عكس المثقف الغربي الذي يشتغل في بيئة مختلفة تماما لا يتعرض فيها لأي من تلك المخاطر. وفي الوقت الذي تطور فيه مفهوم المثقف في الغرب في سياق دول ناجزة وقوية، تطور هذا المفهوم في السياق العربي في ظل استقلال الدول العربية وارتباكاتها ومحاولتها ترسيخ سيادتها، إلى غير ذلك. ثم يتابع الغول "احتمالات فهمه" فيما قلت فيكتب: "وهو بذلك حسبما اعتقد أنه (أي الحروب) جانب الصواب عندما غيب دور مثقفي عصر النهضة العربية، مع أنه استحضر أسماء بعضهم مثل شبلي شميل وبطرس البستاني والأفغاني والطهطاوي ...". لا أعرف كيف غيبتُ أسماء هؤلاء ثم ذكرتهم، لكن الأهم من ذلك هو أن الموضوع ليس أصلا عن تلك الحقبة التي أشبعت بحثاً ولا حول أولئك الرواد، بل مختلف تماماً. ويختم الغول مقالته بإشارة يقول فيها: "بالتأكيد كتاب الدكتور خالد الحروب يشكل إسهاما إيجابيا في إثارة النقاش في أوساط المثقفين الفلسطينيين خصوصا والعرب عموماً ...". وإذ أشكره بصدق على هذه الإشارة إلا أنني أدعوه بصدق مماثل أن يقرأ الكتاب إن أتيح له الوقت وإن كان لديه الاهتمام، وأكون سعيداً بأن ينقض، هو ومعه الزملاء الكرام بدر وسرحان، كل ما فيه من أفكار بعد تلك القراءة لا قبلها.