هل من فروق بين تطبيع ُعمان المجاني وتطبيع الأردن المدفوع الثمن وتطبيع قطر الإخواني التطوعي؟ أم أنها ملامح متشابهة ومتقاطعة لممارسات البرجوازية التابعة للاستعمار هنا وهناك؟
كان الشهيد مهدي عامل قد أوضح منذ زمن بعيد أن البرجوازية الكولونيالية(=البرجوازية الطرفية بلغة مدرسة النظام العالمي) تتوهم أنها تعيد مسيرة التاريخ الخاصة بالبرجوازية الامبريالية (=برجوازية المركز بلغة مدرسة النظام) من ناحية تحقيق النهضة، والتصنيع، والتقدم العلمي، والدولة القومية الخاصة بالأمة، إضافة إلى مفاهيم وممارسات الحريات الليبرالية التي تميز النظام في مركز العالم الامبريالي.
غني عن البيان أن هذا كله وهم بحسب قراءة عامل ومفكري مدرسة النظام العالمي على السواء. ومن نافلة القول إن ما أظنه وما أتوسمه من خير لدي قد لا يكون له سند من الواقع في قليل أو كثير. وقد بينت التجربة التاريخية على امتداد القرن العشرين أن هذه البرجوازية قد فشلت في بناء شيء يزيد على دولة قطرية تستند إلى تقسيمات سايكس بيكو، كما أنها فشلت في تحقيق البناء الرأسمالي الصناعي الحداثي، واكتفت من الغنيمة بالاستيراد والتصدير، متحولة في أحيان كثيرة إلى دولة ريعية تنتج سلعة واحدة –من قبيل النفط- وتستورد باقي الأشياء. ومن البدهي أن شرعية هذه الدولة القطرية قد تآكلت وصولاً إلى تحولها إلى دولة فاشلة لا تستطيع السيطرة على إقليمها الجغرافي. ولكن هذا التآكل الواصل حد النهاية المفجعة لاختفاء هذه الدولة نهائياً لم يترافق –لسوء الحظ؟- مع وجود كتلة تاريخية قادرة على القطع مع الماضي وبناء أسس جديدة لوطن عربي يلتف حول مشروع مختلف، وتقوده قوى وطبقات ورؤى مختلفة جذرياً. لقد بدا أن القوى القديمة تحاول أن تجدد نفسها، ولكن ذلك فيما يبدو غير ممكن. وليس هناك من جديد يريد أن يولد. وهكذا دخلت الدول العربية في أتون سيرورة داخلية معقدة تقود إلى التحلل والمزيد من التحلل.
فكرنا في ذلك كله ونحن نستمع بحزن إلى الأخبار التي تتناقلها وكالات الأنباء تباعاً حول التفجيرات التي تستهدف جهاز الدولة الأهم في مصر: القوات المسلحة، فتقتل من تقتل، وتجح من تجرح. لقد جاء إلى سدة الحكم في مصر "جنرال" من وسط الجيش، ولكن ذلك لا يبدو حلاً سحرياً للأزمة: أزمة موت القديم، وعدم إمكانية ولادة الجديد بسبب عدم وجود جنين من هذا النوع أصلاً. لكن التاريخ بالطبع لا ينتظر من أحد أن يجهز نفسه لمعركة حان وقتها؛ فالتاريخ يمضي في طريقه لا يلوي على شيء. ولذلك يأتي جواب التاريخ منسجماً مع الرؤية الأمريكية واسعة الخيال: الفوضى الخلاقة وصولاً إلى تفكك الدولة العربية، وإعادة رسمها وهندستها على أسس جديدة. ولا ضير بالطبع من أن تدخل هذه الدولة في مرحلة الدولة الفاشلة دون أن تنقسم –بالانقسام غير المباشر الشائع في البيولوجيا- إلى دويلات عدة. من الحسن أن تنقسم هذه الدول، لكن الأحسن أن تدخل في دوامة الفوضى "الخلاقة" إلى عقود وعقود. على الأقل يكون العالم الحر قد انتهى من استخراج ما تبقى من نفط وغاز، ويستطيع العرب بعدها أن يعودوا إلى مستوى الفوضى الخلاقة البدوية ويهيموا –أو من يتبقى منهم- في صحرائهم إلى أبد الآبدين.
أرأيتم إن إسرائيل قد تحولت بالفعل إلى الدولة الإقليمية الكبرى التي ليس هناك من يقدر على منافستها؟ وهي قادرة دون شك على زرع الألغام في طريق أي كان. الحق أقول لكم، إن رؤوساً كانت تظن أنها بمنأى عن أي سوء يمكن أن تطير: أنظروا إلى محمد بن سلمان الذي كان لعابه يسيل منذ أشهر طمعاً في ضم قطر والسيطرة على سوريا، إنه قد يخسر –من يدري أين يتجه الحلم الأمريكي على وجه الدقة؟- ولايته للعهد إضافة إلى ما تبقى له من سمن كنزه في جرته على امتداد ثلاثة أرباع القرن. وهكذا فإن الزمن يتحرك وفقاً لأجندة مدهشة من حيث توافقها مع مصالح "العالم الحر وإسرائيل".
خرج الناس في ربيع العرب المزعوم إلى الشارع بمباركة أمريكية عز نظيرها، وفرح الناس هنا وهناك وهم يرون إلى عروش بن علي في تونس، ومبارك في مصر، والقذافي في ليبيا، وعلى عبد الله صالح في اليمن وهي تدك وتهدم. وبدا للكثيرين أن عرس الحرية وحكم الشعب قد ولد. لكن هيهات، هيهات: ما سقط هو رأس النظام لا أكثر، لأن ما وقع لم يكن ثورات اجتماعية سياسية اقتصادية شاملة تسقط طبقة البرجوازية الكولونيالية، وتأتي بنقيضها، أو تحالف ما يناقضها جذرياً، وإنما تواصل حكم الطبقة بوجوه جديدة. ولكن الطبقة المأزومة ظلت مأزومة وسط ضغط أمريكي يعريها ويضعفها أكثر في مواجهة جماهير الشعوب العربية. فكان لا بد من توليد حلول جذرية: وهكذا جاءت الحلول الإسلامية المتطرفة المدعومة أمريكيا: مرة الإخوان المسلمون، ومرة داعش أو النصرة أو ما أشبه. وبدأت معركة شرسة بين فلول البرجوازية المتحالفة مع الاستعمار الكوني، والبرجوازية الدينية العمياء المتحالفة بدورها مع الاستعمار ذاته. والأمريكي يصب الزيت على النار، ويضحك سراً وجهراً، وهو غير مصدق حجم النجاح الذي يتحقق.
لم يكن هناك كتلة قومية يسارية في مصر لحظة سقوط مبارك، وما زال هذا الوصف صحيحاً حتى اللحظة، ولذلك فإن مسلسل الفوضى الخلاقة الذي يعم شمال أفريقيا العربية، ويشمل قلب المشرق النابض متمثلاً في العراق وسوريا ولبنان، ويمتد ليصل إلى اليمن في أقصى جنوب الجزيرة العربية، وهو مرشح بقوة لأن يتمدد ليدخل مصر نهائياً في دوامته، ويكمل مهمته في البحرين، وليس هناك ما يمنع من اقتحامه أوكار النفط في الخليج والسعودية. وبهذا تدخل المنطقة كلها في نطاق الفوضى الخلاقة الشاملة وصولاً بنا إلى حالة مختلطة من الدويلات الصغيرة، أو من الدول الفاشلة التي لا تستطيع السيطرة على إقليمها. ترى هل أدرك أنصار الديمقراطية واللبرلة من التائهين من الصفوف اليسارية والقومية، أو التائهين من صفوف الفكر البرجوازي الليبرالي أنه لا مكان للوصفة الديمقراطية وكل عناصر اللبرلة الاقتصادية في بلادنا؟ ترى هل أدركوا أن هذا مجرد أداة نظرية وسياسية للإجهاز على العرب نهائياً، وتفتيت كياناتهم التي تشبه الدول، ليعودوا إلى زمن حرية القبيلة، أفراداً أحراراً لا دولة تضبطهم، ولا حدود؟ إن صحوة هؤلاء –وهم كثر- قد تسهم في كبح جماح مارد الفوضى المدمر لكل شيء يعترض طريقه. أما إذا كانوا ما يزالون يحلمون بالثورة الفرنسية التي قضت فيها برجوازية فرنسا على الإقطاع، لتلد الرأسمالية والحريات الليبرالية، والدولة الديمقراطية العصرية، ويظنون أنهم يسيرون على هداها، فلا بد أننا واصلون إلى الدرك الأسفل: اختفاء العرب بوصفهم كيانات سياسية ذات معنى، وتفتتهم إلى شراذم تشبه القبائل في أرذل صفاتها، ولكنها تفترق عنها في أي شيء إيجابي يخص عصر القبائل. لقد كانت القبائل تهيم في صحرائها حرة إلا من كوابح الطبيعة، أما قبائل العرب الحديثة فسوف تدور في فلك الهيمنة الإسرائيلية التي قد تكون كافية لإدارة "الفوضى الخلاقة" الجديدة دون حاجة إلى المساعدة الأمريكية. في هذا السياق المظلم، يمكن أن نتخيل بسهولة أن "إسرائيل" لن تظل قانعة بفلسطين من بحرها إلى نهرها، قد يكون هناك ما يسوغ واقعياً أن تتمدد باتجاه الحلم التوراتي الميثولوجي من النيل إلى الفرات. إذ ما الذي يردعها عن ذلك؟
في هذا السياق بالذات ينتقل الحب بين أمراء الخليج وتسيفي لفني من دائرة السر والنوم في فنادق لندن وباريس ونيويورك وحتى تل أبيب إلى دائرة الزيارات العلنية بأنواعها كلها: السياسية والاقتصادية والرياضية والعاطفية.