انتهت المناسبة. كل شيء تم وفق ما هو مخطط في كل عام، غنينا وخطبنا ولبس جزء منا ملابساً سوداء. أنا بالمناسبة لبست تريننج رمادي، نكاية بالوضوح: أريد أن أبدو سريالياً غامضاً في هذا الزمن "المفج" والساذج لشدة وضوحه.
أفكر في وضوح الظواهر المختلفة:
1. أذهب للطبيب. التأمين يغطينا معشر الموظفين. والطبيب يريد أن يسعدنا بإعطائنا الإجازة التي نريد، والوصفة التي نرغب. حرفياً: سألني الطبيب عما أشكو منه، فقلت له كيت وكيت. سألني عن الدواء الذي أفضله –وقد لاحظ أنني أتكلم الإنجليزية التي تدل على العلم والنبوغ والعبقرية في عرف مجتمعنا المبهور بأمريكا- فقلت له الدواء كذا، فسألني كم علبة أريد، ثم سألني إن كنت أريد إجازة. لم يتحرك الطبيب من مكانه، قدم لي كل ما أريد بحسب رغبتي دون أن يتحقق من وجود الحالة التي أدعيها. إنها التجارة سيدة الموقف بلا منازع.
2. نزور المدارس التي تنهمك منذ عقدين في الخطابة حول الإبداع والتفكير الناقد والمنطقي، وتضع لوحة حقوق الإنسان في مكان الصدارة في المدرسة بقرار قديم لا أعرف من اتخذه. ربما يكون الراحل عرفات أو وزير تعليم سابق ما. لوحة حقوق الإنسان مجرد ديكور لا علاقة له بما يحدث في الداخل. لذلك نجد الشتائم والضرب والإهانة ما تزال سيدة الموقف. نجد التلقين والملل والحفظ الصم ما يزال سيد الموقف. الرقمنة على قدم وساق، والمسابقات الابداعية في سياق حفظ الكلمات الانجليزية والأحاديث عن ظهر قلب. اطمئنوا اخواتي واخوتي: :everything is just in shape
3 .أستمع بدون شهية لأخبار اقتحام المخيمات الجلزون، الدهيشة، شهداء غزة في النفق، والمصالحة والسيسي وسلمان وولده الحداثي، صاحب شركة المناشير الكهربائية في القنصليات السعودية، ومسابقات دبي وابوظبي التي يفوز فيها الفلسطيني دائماً: يصيبني إحساس مثل الذي يلخصه مظفر النواب: "يا رب كفى."
4 .أدخل محلات البقالة والسوبرماركت التي كتبت منذ بعض الوقت على أبوابها "خال من منتجات المستوطنات" باعتبار أن بقية "إسرائيل" شرعية مثلما تعلمون، فأجد البضائع من القطر الجار قد عادت لتملأ الرفوف. لا مقاطعة ولا من يحزنون. عموماً النخب الثرية، نخب المال والسياسة لا تثق في الإنتاج المحلي، وتفضل السلعة "الإسرائيلية" الأجمل شكلاً، والأجود محتوى. على الأقل هذا ما يروج في الثقافة المحلية.
5 .أشاهد إنتاج الجامعات المحلية التي تسهم في البحث الكوني بما مقدراه صفراً لا أكثر ولا أقل. أشاهد مختنقاً كيف أن خريجة الهندسة المعمارية تعرف اللغة العربية خيراً من خريج اللغة العربية، وتعرف الإنجليزية خيراً من خريجة اللغة الإنجليزية. أتذكر معادلة علمي/أدبي. وأتذكر أستاذ النحو الانجليزي في الجامعة الأردنية لويس مقطش وهو يدهشني وانا صغير بزعمه ان من يفهم الفيزياء يفهم النحو والعكس صحيح. تتخفى معادلة علمي ادبي وراء واقعة أليمة: هناك طالب "شاطر" يستطيع ان يحفظ المحتوى غيباً، هذا نسميه علمي، وهناك طالب "تيس" لا يستطيع حفظ شيء وهذا نسميه ادبي.
6 .أشاهد الزراعة تتهاوى وحصتها من الميزانية لا تصل إلى واحد في المئة، وأشاهد أنوية الصناعة البسيطة تختفي، وأشاهد الاقتصاد "الوطني" كله يتحول إلى اقتصاد ريعي (يعتمد على الريع السياسي وعلى رضا سلمان والسيسي ومحمد بن زايد) مختزلاً في تمويل أجنبي سخي للسلطة ومنظمات المجتمع المدني. وأشاهد الفساد ينخر ذلك كله، أشاهد مدراء الأنجزة هنا وهناك يعيشون بمستوى علماء الفيزياء في فرنسا وألمانيا، وأتأمل طريقة توليد النخب الموالية لمستعمريها، وأبحث في المتاهة عن بصيص أمل.
7 . أشاهد المواطن يتحول إلى وحش في مواجهة أخيه المواطن، يحملق في وجهه غاضباَ دون سبب. حتى الغزل الذي يفترض أن يكون تعبيراً عن الحب والعاطفة يتحول إلى فعل عنيف يتضمن النظرات الجارحة –خصوصاً من الرجال نحو النساء- وأحياناً يمتد ذلك ليشمل الضرب أو الاصطدام العنيف....الخ
8 .أشاهد المواطن يمارس الاحتيال والغش من أجل أن "يعيش" ولا يوفر في سياق ذلك قريباً ولا بعيداً. وينكث بكل الأيمان المغلظة من أجل تحقيق أية منفعة مهما صغرت. أشاهد المواطن وهو يتملق الجندي على حاجز الاحتلال، وهو يتملق أي موظف نافذ في السلطة على أمل، فقط على أمل، أو خوفاً من الزمن. أتذكر النص القراني الكريم "يدعون ربهم خوفاً وطمعاً". ونحن نتزلف للنافذين خوفاً وطمعاً.
9 .ينتابني الإحساس بأن منظومة كاملة تشمل السياسة والاقتصاد والتعليم والصحة وبنية المجتمع قد ضربت بقوة وأنها في حاجة إلى ثورة شاملة.
10. أفكر أن بلفور لم يكن قدراً لا مفر منه، وأن صفقة القرن ليست قدراً لا مفر منها وأن اختراق إسرائيل للعواصم العربية ليس قدراً لا مفر منه، أفكر أن الكثير منه قد قام به نفر من بني جلدتنا عن وعي وسابق إصرار وترصد. اتذكر مظفر النواب: "يتخوزق مختاراً، لا إكراه ولا بطيخ".
لذلك كله تزداد الوعود المقدمة لإسرائيل وتتراكم نتائجها التي تأتي على ما تبقى من أوراق شجيرتنا المصفرة.
ترى هل نستفيق في الهزيع الأخير من الليل ؟
إن الفرصة ما تزال سانحة لأن نحرم الصهيونية من إنجاز حلمها الكبير. لكن ذلك يتطلب قبل كل شيء قلب الطاولة على رؤوس الفساد وأصحاب المنافع الذاتية مهما كانت الأسماء والألوان.