وضعت إصبعك على جزء من الجرح يا صديقي. فإلى جانب أزمة الثقة "الذاتية" التي تطرحها في المقال، هناك مجاهيل أخرى تفاقم "أزمة" التعايش مع فكرة راقية تكرس مفهوم العدل والكرامة في حياة المواطنين، وتنعش الأمل بأن تكون لدينا في نهاية المطاف دولة لكل مواطنيها في السراء والضراء.
الى جانب ما أشرت اليه في مقالك، وهو هام ومركزي، فإن أزمة الضمان الحقيقية تقوم في جوهرها على غياب تام لليقين السياسي واضمحلال فكرة أن القضية الفلسطينية هي ناموس المواقف والممارسات في محيطنا العربي والإسلامي، وحتى الدولي. وأعتقد أنه من المشروع لكل مواطن أن يتخوف من هذا الوليد القسري، بعيدا عن المزايدات، لما يلي:
- السلطة الفلسطينية هي كيان إنتقالي تآكلت حصانته المحلية والإقليمية والدولية لأسباب كثيرة، ومنها ما أشرت اليه في مقالك، فكيف لهذا الكيان أن يقنع المواطن بأن مبادرته بإنشاء صندوق يحمل طابع الديمومة، محصنة بضمانات وطنية وعربية ودولية (وللأسف إسرائيلية)، وبأنه لن يكون عرضة لإجراءات الإحتلال بالتصفية أو الإستيلاء عليه أو حتى وسمه بالإرهاب مما يهدد استثماراته الخارجية، بعد أن ينخرط فيه عشرات الآلاف من المناضلين من كافة ألوان الطيف السياسي الفلسطيني، العاملين حاليا ومستقبلا في القطاع الخاص.
- تصدر عن القيادة الفلسطينية تصريحات متكررة حول مستقبل السلطة واحتمال "تسليم مفاتيحها" بسبب انغلاق الأفق السياسي وتغول إسرائيل في تدمير "منجزات أوسلو" ومستقبل حل الدولتين، وفي هذه الحالة اليأس من المشروع للمواطن التساؤل حول مصير الصندوق في حال وصلت طريق أوسلو الى نهايتها المحتومة؟.
- في ظل الشرذمة الجيوسياسية ما بين تقسيمات أوسلو، وتقسيمات الجغرافيا السياسية والتناحر السياسي، وانتقالية كافة القوانين (وعلى رأسها قانون الضمان) بموجب المادة 43 من القانون الأساسي التي تنص على أنه (لرئيس السلطة الوطنية في حالات الضرورة التي لا تحتمل التأخير في غير أدوار انعقاد المجلس التشريعي، إصدار قرارات لها قوة القانون، ويجب عرضها على المجلس التشريعي في أول جلسة يعقدها بعد صدور هذه القرارات وإلا زال ما كان لها من قوة القانون، أما إذا عرضت على المجلس التشريعي على النحو السابق ولم يقرها زال ما يكون لها من قوة القانون.)، كيف سيكون الصندوق تعبيرا عن إرادة شاملة وملاذا آمنا لمستقبل "كل المواطنين" في الوقت الذي يتم إنشاؤه على أكتاف قانون مؤقت مرهون بقرار عن جهة سيادية غائبة وهي المجلس التشريعي، وتفسخ وتقاسم الجغرافيا والمجتمع.
- وحيث أن القانون يستهدف القطاع الخاص، فألم يكن من الأجدر لو أن السلطة أصدرت القانون بحيث يتمكن القطاع الخاص من إنشاء وإدارة واستثمار أموال الضمان على قاعدة الإختيار وليس الإلزام، لصالح موظفيه بضمان السلطة ورقابتها المشددة على حوكمته، وفي هذه الحالة فإن صاحب القرار الأول والأخير في عضوية الصندوق سيكون للمنتفعين، وسيمنع ذلك دولة الإحتلال من معاقبة السلطة بالصندوق وإلحاق الأذى به.
أعتقد أننا جميعا في ورطة تستدعي الحكمة في الخروج منها، والتعاون بين الجميع للنزول عن شجرة المواقف، ورغم تفهمي لدوافع موقف السلطة ودفاعها المستميت عن قرارها بإطلاق الصندوق، بعد أن استنزفت الحوارات خلال العامين الماضيين، وأملا باسترداد مقتطعات العمل في إسرائيل، فإن الحراك القائم حاليا ضد القانون هو ظاهرة صحية تستحق التقدير والدعم ما زالت غير مجيرة لمصلحة أحد غير المستهدفين بالإنخراط في الصندوق، وتحسن السلطة صنعا بالتعامل الحكيم معها والإصغاء لها على قاعدة أن الضمان في السياق المناسب هو مصلحة عليا على المستوى الفردي والجمعي، وأن الجميع شركاء في تحمل المسؤولية، ولا ينتقص قرار السلطة بالتريث والمراجعة من كرامة أحد، خاصة وأن أعداد من يشاركون في الحراك تتفوق كثيرا على أعداد من يشاركون حاليا في التعبير عن الرأي في قضايا مصيرية.