مع احترامي للأدبيات المنشورة حتى الآن حول قانون الضمان الإجتماعي، وكذلك للمواقف التي تشكلت في أعقاب القانون، إلا أنني لا أراها مواقف ومنشورات وقفت عند مبدأ وفلسفة الفكرة، ولم تداهم الموضوع من زاوية التعامل مع المخاطر الإستراتيجية التي ينبغي استحضارها والتعامل معها، وهي -مواقف ومنشورات وهتافات- تتعلق بالتفاصيل (حتى تلك المواقف التي استندت على فكرة غياب الثقة بالسلطة وبجدارتها وقادت أصحابها إلى رفض القانون برمته طالما بقيت مسألة الثقة نقطة بالنقاش) .
الجملة السائدة في معارضة وتأييد القانون معيبة بعيبين مفصليين:
- الأول: حتى وأنها قد تركزت على موضوعات تفصيلية إلا أنها لم تلامس أهم التفاصيل الحقيقية ذات الصلة بالموضوع مثل استناد القانون على مبدأ المساهمات المحددة بدلا من مبدأ المنافع المحددة، أو مدى ملائمة مؤسسة الضمان وطريقة تأسيسها وهيكلتها ومرجعيتها ومدى صحة تمثيل القائمين على مجلس ادارتها للقطاعات التي يراد فعلا تمثيلها في إدارة المؤسسة، ومدى صحة تغذية الدراسة الاكتوارية المعدة لهذا الغرض بالبيانات الأكثر شمولا والاكثر صلة، وعديد من التفاصيل الهامة الأخرى التي لن اناقشها هنا ليس لسبب سوى اعتقادي بأن دور مناقشة التفاصيل لم يحن بعد. لكنني سأكتفي هنا بذكر عيب التمسك بمبدأ المساهمات المحددة ولا سبب مقنع له إلا غياب الفهم الصحيح للخلفية الاكتوارية التي يتم وفقها رسم ملامح النظام التقاعدي، فمعظم أنظمة التقاعد جاءت اعتمادا على، واقتباسا من، أنظمة أجنبية، هذه الأنظمة يميزها نسبة كبيرة في اعداد المتقاعدين قياسا بأعداد العاملين، هذه المجتمعات مجتمعات شائخة يتوجب على كل عامل تحت الخدمة أن "يحمل" موظفا آخر يكون قد وصل الى سن التقاعد، واحيانا يقوم بمهمة الحمل هذه واحد أو واحد ونصف..وهكذا. المجتمع العربي الفلسطيني يعتبر على خلاف ذلك مجتمعا فتيا ويمكن لكل 4 عاملين حمل موظف واحد متقاعد (هذا في أسوأ الأحوال عندما تصل البطالة إلى 30 بالمئة).
- الثاني: وهو الأهم برأيي، كونه متعلق بمدى صحة استيراد موضوع الضمان برمته من حيث المبدأ وتطبيقه على شعب لم يقرر مصيره بعد، وبمدى صحة التصرف كما لو اننا دولة مستقلة. العيب في ذلك ليس القلق على مصير السلطة أو احتمال السيطرة على صندوق التقاعد برغم وجاهة الاحتمال، لكن العيب هو أن الشعب وأجياله المتلاحقة ستصبح ذات مصلحة قوية ببقاء الأوضاع على حالة من الاستقرار بحيث لا يتهدد مصير مدخراتهم وسيصبح لديهم ما يخافون عليه في حال تبلورت حالة مقاومة فعالة ضد الاحتلال وهو الأمر المطلوب من اي شعب يرزح تحت الاحتلال وفي سلم أولوياته.
ان دفع الشعب الفلسطيني إلى منطقة يضطر فيها أن يعيش حياة يقلد فيها بقية الشعوب قبل أن يحسم صراعه الوجودي مع احتلال استيطاني سيجعل منه شعبا وكأنه قد قرر مصيره في ظل وجود الإحتلال كما لو أن التخلص من الاحتلال ليس الخطوة الأولى والأهم في تقرير مصيره. أليس هذا هو السلام الإقتصادي بعينه؟
سيفعل شعبنا وقيادته خيرا اذا قاموا بإيصال رسالة للعالم قوامها أن الاحتلال عائق حاسم لتطلعات الشعب الفلسطيني في أن يعيش حياة طبيعية أسوة ببقية شعوب الأرض، ومعاكس لهذا الموقف وفي غير صالح فكرته الكبيرة القول للعالم انه بإمكاننا ممارسة كل ما تمارسه الشعوب الأخرى بما في ذلك التأمين على مستقبل العمال والموظفين وضمان حياة كريمة لهم حتى في ظل استمرار الاحتلال، فإذا كنا قادرين على التمتع بما هو متاح لشعوب العالم بدون دولة فما الحاجة للدولة ؟
وأخيرا، وحتى يضيف هذا الموقف قيمة للنقاش الدائر حول الموضوع، فإنه يصبح من الضروري استكمال النقاش والحوار حول مخاطر جديدة لم يتعامل معها القانون ولا الحكومة ولا القطاع الخاص ولا حتى الفئة الأهم (وهي فئة الموظفين والعمال وهم موضوع الضمان)، ولا حتى النخبة التي تاهت في خضم نقاش غير وثيق الصلة بالمخاطر التي تحدق بحضور الشعب الفلسطيني وحضور قضيته.