لا رغبة لديّ لمراقبته، كنّا في جلسة جماعية ضمّت الكثير من الأصدقاء ومن حولنا هرج وصخب. من الصعب عليّ أن أركّز في موضوعٍ محدّد، كأنّي أتواجد في غمامة أو أسير في نفقٍ مجهول. هو يجلس وحيدًا، خاوٍ من مشاعر جيّاشة، لا ينتظر أحدًا، يمسك قلمًا وسرعان ما يكسره، ثمّ يتناولُ جرعةً من القهوةِ المغلية على نارٍ هادئة (يشتهر بها المقهى، الذي لا يعرف إحداثياته سوى نخبة من الروّاد والمثقفين). لا يبدو عليه الشغف بأيّ شيء في محيط المكان، كأنّه هبط من كوكبٍ آخر، لا يتقن فنّ التعامل مع الحياة ووقع الدقائق البطيء أو السريع المتسارع وفقًا للحالة النفسية، لكلّ من يصرّ على أنّه جزءًا من البشرية.
لا يهمّني لمَ كسرَ القلم، فهذا عبثٌ وجوديّ على أيّة حال، وقد بات القلم عبئًا بعد أن فرضت الأجهزة الحديثة حضورها، وحلّت مكان الحبر والتدوين الذي عشناه حتى مطلع القرن الواحد والعشرين، مع أنّي أعشق القلم وأمتلك في كلّ سترة واحدًا، أستخدمه للكتابة على وجه الريح عند الضرورة أو فوق سطح الماء. ما لفت انتباهي، هو ذاك الذي أدرك في لحظة عابرة عبثية الأشياء وقيمتها والثمن الذي يتوجّب علينا دفعه إذا أصرّينا على التمسّك بها.
ليتني أقدر على كسرِ القلم، أشعرُ بأنّي مرتبطٌ به عضويًا، ويبدو هو مغيّبٌ عن الحلّة الاجتماعية المعاصرة ومآل الحلم والواقع الذي نعيشه! من يقرؤني، من يتصفّح كتبي؟ من يغامر بقضاء دقائق ثمينة للتجوّل في متن الكتاب أو المقال أو المسرحية والسير في رسم حضور القصّة إلى نهايتها، حتّى وإن لم تكن محاكاة لألف ليلة وليلة، يصعب العثور فيها على فرسان ينفثون النار أو حرامية، أربعون أو أقلّ، ولا يوجد فيها أبطال يحملون اسم سندباد أو علاء الدين أو هاري بوتر!
هل سأتمكّن من طباعة ذكرى لهذا المساء الدافئ، قلبي حالةٌ من الانكسار، يبحث عن فضاء أكبر لعضلته، بعد أن ضاقت الدنيا بمن فيها وتقلّص القفصُ الصدريّ. عدا عن ذلك، تراه في اللحظة الأخيرة قد رفض فيها الحريّة التي يتمتّع بها قلبي وسط أمواج العبودية الممتدّة من المشرق والمغرب.
- هل ما تزال تعتقد أنّك فلسطينيّ؟ الانتماء ذاته الذي حملته قبل ثلاثة عقود من الزمن! أتلاحظ تركيزي على امتداد عامل الزمن لثلاثة عقود، هذا ليس مصادفة.
- وهل ما تزال أنتَ تعتقد أنّك عربيّ؟ الانتماء ذاته الذي حملته يومًا ما وإلى وقتٍ قريب؟ هل ما يزال نبضك يحمل تغريبة الوطن المحمّل بقطوف العنب والزيتون والتين والفقّوس وبيادر الطماطم وبعض الورد والياسمين المتشابكة أذياله على جدار البيت!
* * *
هذا ليس حوارًا بل مونولوج. أتوجّه بحديثي للذات التي تاهت في لجّة الحدث، الذي بالغ بانفجاره في وجه النهار. عن أيّ نهارٍ أو يومٍ من التاريخ أتحدّث؟ ربّما أقصد بذلك استمرارية الأربع والعشرين ساعة في حياة منتصر قبل حلول القرون الوسطى تمرّ كلحظة، وأربع وعشرون ساعة أخرى طويلة كدهر في حياة مهزومٍ رفع الراية البيضاء، وأسلم عشيرته وأبناء عمومته، ولم يحاول حتّى أن ينفخ ليطفئ النيران المشتعلة في مكتبة بغداد.
حديث الهويّة المشبوه المعقّد حدّ التلف، والالتفاف حول المدينة كيلا ندخل من بوابتها العريضة أبدًا، كما فعل سابقًا بعضُ المحظوظين في المشرق، ليجدوا الهوية قد مسحت خطايا الماضي واضعة إطارًا لغدٍ واعدٍ للغاية، والطبول تُقرعُ معلنة بدء مرحلة من الارتقاءِ نحوَ مداراتِ العشق.
- هل قلت العشق! العشقُ الذي يُنسينا وقعَ الوقتِ لنتوهَ في حمّى اللحظة. مداراتُ العشقِ الذي تخلّى عن أهله مفضّلا العبور إلى الضفّة الأخرى. وحدُنا نعرف وقع هذه المفردات يا سيّدتي، الضفّة الأخرى، نصفُ الأهل، نصفُ الذكرى، نصفُ الوطن، كلّ الحكاية - العشق.
ثمّ تاهت القصيدة أيضًا، بحثنا عنها في كلّ المكان، في القواميس والدواوين المتناثرة عند باب حارتنا، في المقاهي القديمة جدًا، تلك التي تحتفظ بصور مؤطّرة معلّقة على جدران ملطّخة بدخان التبغ وعبق كولونيا الرجال يعبّون الشاي المغليّ بالمرمرية، يلعبون الورق وينتظرون على أحرّ من الجمر موسم قطف الزيتون والمَعاصِرِ تنتظرُ لتصبّ عصارة الحياة الخضراء الحارّة اللاذعة المذاق.
كأنّي أحبّك!
قلتها ومضيت في طريقي، كأنّي ولأنّ كلّ شيء بات نسبيًا، الحبّ والوفاء والخيانة نسبية تعتمد على اللحظة المواتية لتبيع ما بحوزتك، حتّى وإن كان الثمن دون المتوقّع. تحصل على نصيبك وتمضي في الطريق إلى الضفة الأخرى ومن خلفها أخرى، وكلّ من حولك يقامر بالغد وقد كُسرت عقارب الساعة، لم تعد تقوى على ملاحقة الثواني..تيك تاك، ثمّ تنفجرُ القبلة في فمِ العاشق وتمضي الليلةُ وأخرى حتّى البعث الآخر، كأنّي أحبّك!
حالة الانكسار لا تنقضي، حالة الانكسار تتماهى مع الحقائق المنسية المُغْفَلة، وترين يا سيّدتي الأسود أسودًا، تُصابين بالعجب وقد وَضُحت الرؤيا. لا، أنتِ واهمة. لم يكن الأسودُ لونًا سوى أنّه انعكاسُ العتمةِ والانكسار! لا تبحثي عن الأبيض، عليكِ قبل ذلك أن تتعرّفي على كلّ ألوانِ طيفِ قزح.