ثمَّة من هم مهيَّئون فطريَّاً للهروب من الحاضر، إمَّا باتِّجاه الماضي، أَو باتِّجاه المستقبل.
كلاهما، كلا الطَّرفين، لا يقبلان بالحاضر، ومعطياته، وشروطه، لذا يبحثون عن ملاذ آمن يحمل ظروفاً مناسبة تتماشى مع الطَّبيعة الفطريَّة الَّتي يجدون أَنفسهم مقيَّدين إليها.
قد يبدو الأَمر كذلك بالضَّبط، حين ننظر إليه من خلال منظار الزَّمن ثابت السُّرعة، الَّذي يسير بخطٍّ مستقيم، بلا تسارع، ولا تباطؤ، ولا تعرُّجات....فهل صحيح أَنَّ الوعي فقط هو من يعود إلى الماضي، أَو يقفز إلى المستقبل ويتقمَّصه؟ أَم إنَّ الأَمر أَبعد من ذلك، وأَعقد، وأَنَّ ثمَّة من البشر من يقفز عبر الزَّمن، بطريقة لا شعوريَّة.
لم يستطع العلماء حتَّى هذه اللَّحظة أَن يتَّفقوا على مفهوم واحد للزَّمن، ولم يقدِّموا تفسيراً لمفهوم الزَّمن، وأَقصى ما قُدِّم من تفسيرات حول الزَّمن، هو أَنَّ الزَّمن مفهوم مرتبط بالانفجار الأَعظم، نقطة الصِّفر مكانيَّاً، هي نقطة الصِّفر زمانيَّاً، وتدفُّق المكان، وتوسُّع الكون، يحمل معه تدفَّق الزَّمن، لذلك، فقد يكون من المستحيل العودة بالزَّمن إلى الخلف، لأَنَّ الكون المتدفِّق، المتمدِّد، لا يعود إلى الخلف....لكنَّ الثَّابت بالنِّسبة للعلماء أَيضأً أَنَّ الزَّمن مرتبط بالمكان، ومن هنا، جاء مفهوم الزمكان الَّذي أَطلقه أَينشتاين في نظريَّته النِّسبيَّة، وأَنَّ الزَّمن أَيضاً مرتبط بالسُّرعة، وأَنَّ الزَّمن الكونيَّ ليس متساوياً، ليس كما تخيَّله نيوتن، آلة عملاقة تحكم بقوانينها الكون من أَقصاه إلى أَقصاه.
ما هو الزَّمن؟ وهل الزَّمن هو وعينا بالزَّمن؟
قُيِّض لي، قبل سنوات، أَن أُشاهد برنامجاً حول قبيلة أَفريقيَّة فرَّتْ منذ مئات السِّنين من قبيلة أُخرى كانت تقوم بافتراس أَهل هذه القبيلة، وأَكل لحمهم، لذا، وجدتْ تلك القبيلة مخبأً آمناً في مكان بعيد، خفيٍّ، وبقيت هناك، لا تعرف شيئاً عن تطوُّر البشر، وتقدُّم الحضارة، حتَّى تم اكتشافها مؤخَّراً، فقامت محطَّات التَّلفزة، ووكالات الأَنباء، بتغطية هذا الاكتشاف، وقامت جهات غربيَّة متخصَّصة بدراسة طرق تفكير هذه القبيلة، وعاداتها، وتقاليدها، وأَكثر ما لفتَ انتباهي في إحدى المقابلات، هو أَنَّ أَفراد هذه القبيلة لم يكونوا يدركون مفهوم الزَّمن، وعند سؤال أَحدهم عن عمره، بواسطة مترجم خاص، لم يفهم السُّؤال، وحين قاموا بشرح معنى السُّؤال له، أَجاب أَنَّ عمره سنتان، مع أَنَّ عمره، كما يبدو عليه، قد تجاوز الستِّين على الأَقلِّ.
هل يمكن لذلك الأَمر أَن يعطينا فكرة عن مفهومنا للزَّمن؟
بالمقابل، ثمَّة بعض العلماء الَّذين أَكَّدوا خلال دراسة منشورة، أَنَّ عمر الإنسان، مع نهايات القرن العشرين، وبداية القرن الواحد والعشرين، قد تقلَّص عشر سنوات، مع أَنَّ معدَّل الأَعمار زاد بالمتوسِّط عشر سنوات، وذلك يعني أَنَّ الشَّخص في عمر الستِّين، الآن، يساوي الشَّخص في عمر السَّبعين سابقاً، وذلك مرتبط بالتطوُّر الطبِّي، والنَّصائح، والرِّعاية الصحيَّة، وسرعة انتقال المعلومة، وسرعة إيقاع الحياة، الخ....
ربَّما يكون أَصل هذه الدِّراسة مبنيَّاً على علاقة الزَّمن بالسُّرعة، إذ كلَّما زادت السُّرعة، تباطأَ الزَّمن، وعليه، فإنَّ سرعة إيقاع الحياة، يجعل الزَّمن يتباطأ، من هنا، يصبح العمر أَطول، في المسافة الزَّمنيَّة الكونيَّة ذاتها، خصوصاً أَنَّ الزَّمن الكونيَّ هو زمن متباطئ أَيضاً، نظراً لتسارع حركة الكون، وتمدُّده، وأَنَّ الزَّمن الأَرضيَّ هو جزء من الزَّمن الكونيِّ الكليِّ.
كنتُ دائماً أَتساءل عن ذلك السرِّ الَّذي يجعل شخصاً في موقع مسؤول، قادراً على الاحتفاظ بذاكرته، أَو بجزء كبير منها، وعلى التَّفاعل مع الأَوضاع القائمة، وإعطاء القرارات، وفي المقابل، ثمَّة من هو أَصغر منه سنَّاً، من النَّاس البسطاء، من يفقد تدريجيَّاً ذاكرته، وقدراته على التَّفاعل مع الوسط المحيط، خصوصاً بعد إحالته على التَّقاعد، وثمَّة أَصلاً من يعتبر التَّقاعد من العمل، حالة تقاعد من الحياة، بطيئة، وصولاً إلى الخروج المطلق منها، إمَّا بالموت الفعليِّ، أَو الموت المجازيِّ حين يفقد الفرد القدرة على التأثُّر، والتأثير.
طبيَّاً، هناك دراسات أُجريت حديثاً لهذا الأَمر، وما زالت قائمة، والمفاجأَة فيها أَنَّ عمر الإنسان، أَو ما اصطُلح عليه، كعمر، أَي مرور الزَّمن على الجسد، منذ لحظة الولادة، ليس متساوياً بين إنسان وآخر، وهو أَيضاً ليس متساوياً في كينونة الجسد ذاتها، فهناك عمر للقلب، رهن بحالته، وعمر للدِّماغ رهن بحالته، وعمر للجلد، وعمر آخر للمفاصل، والعظام، وهكذا...
قد يبدو الأَمر غريباً بعض الشَّيء، ولكنَّه يصبح مفهوماً أَكثر حين نقارن بين شخصين، أَحدهما ما زال نشيطاً، يعمل، والآخر أَعطى لنفسه تقاعداً مبكِّراً، في الأَربعين، أَو الخمسين.
ثمَّة فرق واضح في أَداء وظائف الأَعضاء، بين رياضيٍّ، وشخص لا يمارس الرِّياضة، وثمَّة فرق أَيضاً مرتبط بالمناخ، وطريقة الحياة، وأَساليب التَّغذية، وعوامل كثيرة أُخرى.
لا شكَّ طبعاً أَنَّ التقدُّم في السنِّ يترك آثاره على الجسد، على قدرات الجسد، ووظائف الأَعضاء الَّتي تصبح في مرحلة ما مستهلكة، لا أَحد بوسعه أَن يُنكر ذلك، لكنَّنا أَردنا القول إنَّ تلك المسأَلة نسبيَّة تماماً، وأَنَّها لا تسير بشكل متساو بين البشر، وأَنَّ طبيعة تكوين الجسد، والجينات الوراثيَّة تلعب دوراً في ذلك، بالإضافة إلى ممارسات الشَّخص اليوميَّة، وإيمانه بقدراته.
الزَّمن مسأَلة نسبيَّة بحتة، حتَّى الزَّمن الأَرضيُّ متفاوت، وقد أَثبت ذلك أَينشتاين من خلال النَّظريَّة النسبيَّة، فثمَّة فرق في الرؤية بين مُشاهدين للقطار ذاته، كلٌّ ينظر إليه من زاوية، إذ يراه كلٌّ منهما في زمن مختلف، لذا يختلف المشهد، عدا عن الإحساس بالزَّمن، فالكلُّ يدرك ذلك الفرق في الإحساس بين ساعة من التَّعذيب، أَو ساعة من الانتظار، وساعة من السَّعادة، الأُولى نشعر بها بطيئة أَطول من عام، والثَّانية نشعر بها سريعة تمرُّ وكأَنَّها لحظات....وقد يضاف إلى ذلك أَيضاً، انعدام الشُّعور بالزَّمن أَثناء النَّوم، أَي غياب الوعي.
من هنا، من خلال هذا الشُّعور بالزَّمن، المتفاوت، سنجد أَيضاً، ثمَّة من لا يستطيع أَن يعيش الزَّمن الحاضر، فتراه يتقمَّص الماضي تماماً، يسير فيه، يُفتن به، ينطق به، يمثِّله، وبالمقابل هناك من يرفض الحاضر، لا يستطيع أَن يتأَقلم معه، أَو يتعايش معه، لذا تراه متمرِّداً عليه، لأَنَّه لا يستطيع أَن يعتبر نفسه جزءاً منه، فتراه يقفز من فوقه، لاشعوريَّاً، إن كتب، يكتب شيئاً يعدُّ غير مفهوم بالنِّسبة للبشر، وإن رسم رسم بالطَّريقة ذاتها، أُولئك هم عادة من يؤسِّسون لمستقبل المجتمعات البشريَّة، إذ إنَّهم يمتلكون تلك الملكة الفطريَّة الَّتي تجعلهم قادرين على التَّعايش مع رفض المجتمعات لمنتجاتهم الإنسانيَّة، والإصرار عليها، ما يجعل تلك المجتمعات، تعود إلى منتجاتهم، بعد سنوات طويلة، حين يصبح المجتمع مؤهَّلاً لفهمها، وهذا بالضَّبط ما جرى مع كثير من العظماء الَّذين عرفتهم البشريَّة.
لا شكَّ أَنَّ الزَّمن مفهوم مبهم، منفلت بطبيعته، وذلك هو التَّناقض الَّذي يعيشه الوعي في علاقته بالزَّمن، حيث يحاول الوعي تأطيره، وتقييده، وتعريفه ضمن مفهوم ثابت، حسب معرفته....ما يخلق حالة تناقض بين الاثنين، تستدعي بالضَّرورة إعادة النَّظر كليَّاً بهذا المفهوم الَّذي يعدُّ أَحد الرَّكائز الأَساسيَّة في الوجود.