الأربعاء  27 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

سرّ عرفات / بقلم: نبيل عمرو

2018-11-14 06:16:25 PM
سرّ عرفات / بقلم: نبيل عمرو
د. نبيل عمرو

 

كانت القيادة والسيطرة بالجملة وبالتفصيل هي الفكرة الثابتة في عقله وروحه وسلوكه، فهو قائد الفريق واللاعب الأساسي وأحيانا الاحتياطي، والمدرب والحكم ومقرر النتيجة، وكل من معه وحوله كانوا بالنسبة له مجرد جمهور يلزم للمساعدة أو التشجيع أو حتى المباهاة بهم أمام الآخرين.

إلا أن هذا الرجل المركزي، كان يعرف أدق التفاصيل عن ما يجري في دولته المترامية الأطراف، وكان أكثر فلسطيني يعرف فلسطينيين ويقيم علاقات مباشرة معهم، وحين خرج من بيروت حيث قاعدة نفوذه وقوته الأساسية؛ وهو على متن الباخرة اليونانية التي سترسو به على بعد مئات الأميال، بدأ يخطط لاستعادة النفوذ إلى البلد الذي تضافر العالم كله لإخراجه منه.

وكما تجمع النملة حبات القمح في الصيف لمؤونة الشتاء، جمع بدأب وصبر من كان سجل أسمائهم في دفتره الصغير، كحلفاء وأنصار، واقتحم تحالفات كانت محرمة عليه يوم كان سيد المعادلة في تلك البلد، وفي أشهر قليلة استعاد حضوره القوي والفعال، وعاد رغم عدم وجوده الشخصي على أرض بيروت والجنوب ليكون رقما صعبا في معادلة القوى.

 وذات يوم عيد انشقت الأرض عنه، فإذا به يقود جيشه على أرض الجغرافيا اللبنانية، ولكن هذه المرة في الشمال...

لماذا عدت يا "أبو عمار" وأنت تدرك جيدا أن السوريين والإسرائيليين الذين يحيطون بطرابلس إحاطة السوار بالمعصم لا يريدونك هناك، ولن يكون صعبا عليهم تصفية وجودك ووجود فدائييك المحاصرين في مخيمين صغيرين؟

كان يقدم أجوبة متعددة عن هذا السؤال، فإذا ما جاءه وسيط خير لتحسين علاقته مع الرئيس الأسد كان يقول له: إنني ما أتيت إلى هنا إلا من أجل الحوار معه والاتفاق.

وحين يأتيه مندوب سوفياتي ويلومه على المغامرة ويقول له بصريح العبارة إن لا مستقبل له، كان يقول له: لم آتي هنا كي أحارب وإنما كي اصالح.

وحين يسأله أحد وجهاء المخيمات لماذا أتيت والخطر من أمامك ومن خلفك، كان يقول: الموت بين أهلي ورجالي هو الحياة.

كان واسع الحيلة، يجد المسالك حتى في الجدران الصماء، ويقتحم دوائر الخطر كي يظل في اللعبة، فهو يدرك بالإلهام والتجربة حقيقة أنك قد تكسب اللعبة وقد تخسرها ولكنك كي تعيش كسياسي تموت لو غادرت اللعبة.

لا أعرف هل قرأ كتاب لعبة الأمم القائم على هذه الفكرة أم لا؟

ومن خصائص هذا الرجل الاستثنائي، أنه يعرف متى يتكيف مع الواقع المناوىء له، ومتى يتصدى وكيف، ودون هذه الموهبة ما كان له أن يخرج حيا من أيلول 1970 والانشقاق الذي تضافرت فيه جهود دول مؤثرة للقضاء عليه بالاستعانة ببعض أهله، ولما خرج حيا من تجربة طرابلس لبنان، حيث انحسرت دولته في مخيم البداوي وبقايا مخيم نهر البارد، ولو لم يغير موعد المغادرة ومكان الصعود إلى السفينة، لتمزق ومن معه وصاروا أشلاء تحت قصف جوي غزير قامت به الطائرات الإسرائيلية التي كلفت بمهمة... أن لا يخرج حيا.

موهبة التكيف حررها عرفات بإزالة الخطوط الحمراء من أجل الاقتحام، فكان قراره بزيارة القاهرة التي كانت محرمة عليه وعلى معظم الدول العربية، مصدرا جديدا لحياة جديدة.

لقد حمل عرفات كل هذا الإرث العبقري وجاء به إلى أرض الوطن، كان مدججا بالآمال والأحلام البسيطة والباهظة، غير أن للأقدار تصاريفها التي لا يقوى على ردها كائن بشري مهما تعددت مواهبه وقدراته، فإذا بالقدر يلعب لعبته المميتة، فكان أن تحقق للقائد الاستثنائي بعض ما أراد.

لم يقم دولته ولم يحرر وطنه، فالمعادلة لم تسمح بذلك، إلا أنه دفن تحت تراب وطنه وعلى بعد قبلة من أعز مكان نشأ فيه وتمنى أن يعود إليه.."القدس".

سر عرفات أنه وبعد أربع عشرة سنة من الغياب ما زال حاضرا، فكلما وقعت واقعة يتساءل الناس، ماذا كان سيفعل لو أنه على قيد الحياة.

سؤال كهذا وحين يستمر لأربع عشرة سنة مليئة بالأحداث والمصائب الكبرى، فهو ما يجسد حضوره الدائم في الموت مثلما كان في الحياة.