السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

فصل من رواية (غاسل صحون يقرأ شوبنهاور) بقلم: محمد جبعيتي

عن دار الآداب للتوزيع والنشر.

2018-11-16 12:42:33 PM
فصل من رواية (غاسل صحون يقرأ شوبنهاور)
بقلم: محمد جبعيتي

لم أكن أعلم أن لديّ هذه القدرة على محادثة الطيور. فصيلة البوم على وجه التحديد، وجدتها ذكيّة ولطيفة، بعيدًا عن تلفيقات البشر، هؤلاء الذين ينسبون الشر إلى غيرهم من الحيوانات. كيف بوسع هذا الطائر الخجول أن يجلب الشؤم والدمار إلى العالم؟ إنه ليس أكثر من طائر صامت وهادئ، يخرج في طلعات ليليّة ليصطاد، هكذا كنت أقول لنفسي في كل مرة أرى فيها البومة.

لا تكاد تفارقني. أراها على سطوح البنايات، وفي الشرفات، وفوق أعمدة الكهرباء. أجدها تسبقني كأنها تعرف الأمكنة التي سأذهب إليها. بدا لي أنها تملك أجهزة تنصت عالية الكفاءة، تمكنها من معرفة ما يدور في رأسي. زرعت البومة شبكة تجسس كاملة في دماغي، فأصبحت قادرة على التقاط موجات تفكيري. هذه الفكرة أخافتني، فماذا لو كانت تعمل لحساب جهار مخابرات أجنبي أو أي جهاز أمني آخر؟ ماذا لو كانت تبعث إليه تقارير يومية؟ صحيح أنني لم أقم بأيِّ عمل خطير، لكنَّ الناس في هذه الأيام تدخل السجون وتموت جرّاء التعذيب، من دون أيِّ سبب أو تهمة.

هذه البومة لا تبدو شريرة، ولا أدري لماذا لم أحظَ بفرصة محادثتها إلا في مرات قليلة. تكتفي بالتحديق من بعيد، من دون أن تبادر بقول أي شيء. وحين أحاول فتح حديثٍ معها، تظل جامدة من دون أن ترفع عينيها عنّي. وخلال المحادثات القليلة، تمكنت من فهم طريقة كلامها، فهي تنطق بكلمات غير مترابطة، لكنها عميقة ومشحونة بالدلالات، ولا تشبه طريقة كلام البشر. في المرة الأخيرة، كانت البومة تقف فوق صخرة إلى جانب الشارع، وكنت أبتعد عنها حوالي خمسة أمتار. مرّت نصف ساعة وأنا أحاول أن ألتقط كلماتها التي بدت من دون معنى. كانت تترنّح وتفقد توزانها، فتسقط على الأرض، لكنّها تقفز من جديد لتعود إلى مكانها بحركة رشيقة. بدت لي سكرى بعد أن أفرغت كمِّيَّة هائلة من الكحول في عروقها، أو أنَّها تعاطت صِنفًا قويًّا من المخدِّرات.

ــ لقد بعثوني لأحذِّرك.

ـ من هؤلاء؟

ـ ليس لديهم أسماء.

ــ أين يعيشون؟

ــ في المستقبل.

ــ لم أفهم!

ــ إنهم الذين خططوا لتلك العملية. بعد أن اقتحموا أحد أحلامك، دفعوك إلى المستوطنة لقتل الجنود، وكانوا يشرفون على عملك عبر غرفة عمليَّات تقع في عالمهم.

ــ آخرون في عالم آخر يتحكمون بأناس من هذا العالم، ويدفعونهم إلى تنفيذ خططهم المرسومة سلفًا!

ــ وفي الطرف الآخر، ثمَّة أُناس متوحشون ولا يعرفون الرحمة. أما هؤلاء الذين على اتصالٍ معك، فهم صالحون، وأنا واحدة من جنودهم.

ــ عفوًا أيتها البومة، لكنّي شابٌّ عادي، لا أملك أيّ شيءٍ مميَّز أو خارق للعادة.

ــ الناس في ذلك العالم حكماء، بالتأكيد لم يختاروك عبثًا. لقد رأوا فيك ما لا تراه أنت.

مع مرور الوقت، بدأت البومة تتخلّص من سكرتها وهذيانها، لتعود كما عرفتها في المرات السابقة، حكيمة مع حفاظها على الغموض. صارت عباراتها أكثر انتظامًا وأقلَّ أخطاءً في اللغة.

ــ هل هناك طيور شرِّيرة تقف مع الطرف الآخر؟

ــ نعم، الغربان. لذلك تجدني حذرة أغلب الوقت.

ــ وكيف علاقتكم أنتم البوم بجماعة الغربان؟

ــ فترات من الحرب والسّلام. في أثناء الحرب العالميّة الثانية، وقعت حرب بين البوم والغربان لم يعرف بها العالم، لأنه كان مشغولًا بإحصاء ضحاياه من البشر. وكما كانت حرب البشر همجيَّة ودمويَّة، كذلك كانت حرب البوم والغربان. لقد سقط عشرات آلاف الضحايا من فصيلتي الطيور في جميع أرجاء العالم.

ــ وكيف هي علاقة الغربان بالبشر؟

ــ كلانا نمثِّل الشؤم والنحس بالنسبة إلى البشر الذي يكنُّون لنا كرهًا تاريخيًا، يمتدّ إلى قرون طويلة، من دون سبب واضح، غير أنّ لدينا بعض التصرُّفات الغريبة، وربما أشكالنا وأصواتنا مختلفة. هل الاختلاف عن الآخرين يمثِّل تهديدًا لهم؟ بقيت أفكر في هذا الأمر طوال الوقت. الغربان محايدة في علاقتها بالبشر، وغير ودودة معهم، في طبيعة الحال.

ــ من أين عرفتِ بأخبار هذه الحرب؟

ــ من كبار البوم، الأجدادِ الذين ما زالوا يتذكرون الموت والخراب الذي لحق بشعبهم، إنِّهم يورِّثون أيضًا الحكايات. لقد أسَّسوا هيئة لحفظ السلام ووقعوا على معاهدات لمنع أيِّ نزاع مستقبليّ، كما يقومون بتوعية الأجيال الناشئة بشأن عبثية الحرب ودمويّتها، إن الطيور تتعلّم من أخطائها بسرعة.

ــ والبشر؟

ــ إنَّهم أغبياء ومغرورن، يعتقدون أنَّهم مركز هذا الكون. الحقيقة أنَّ لا مركز، إنَّ الحياة تتغذَّى على الهوامش.

وكرَّرت عبارتها الأخيرة: إنَّ الحياة تتغذّى على الهوامش. كان إيقاعها جميلًا، من النوع الذي ترغب في سماعه أكثر من مرَّة. كانت زاخرة بالبياضات ومفتوحة على التأويل، تدفئ القلب، وفي الوقت نفسه موحشة وتبعث على الألم.

ما هذا اللغز المحيّر الذي أعجز عن حلِّه! أنا إنسان ليس على علاقة جيدة بالمنطق، لكن هذا لا يعني أنّي أفهم هذه الأشياء المجنونة. ليست لديَّ العبقرية التي تمكِّنني من فهم أحاجي هذا العالم الغرائبيّ. شعرت بأنّي داخل متاهة، ولا يوجد يد واحدة تنتزعني من عمق الضياع. بدت لي مأساة طريفة. لا أذكر أنّ رأسي ارتطم بجذع شجرة، أو غرقت في بحر غامض ومنسيٍّ، أو وقعت في حفرة تعود إلى الحرب العالمية الثانية، ليتغيّر نظامي الداخلي وأجدني في هذه الدوامة من الأحداث، فأغدو قادرًا على محادثة البوم، وتنفيذ خطط أُناس من عالم آخر.

قفزت البومة عن الصخرة، وأخذت تتمشَّى على الرصيف كأنَّها عارضة أزياء، ثم نفشت ريشها ورفعت رأسها. لا أدري لماذا تذكّرت طلاب الثانويَّة، وخصوصًا بنت الجيران التي كانت تدرس على سطح بيتها، فتعرف كلّ القرية بمواعيد دراستها، فيأخذ الشبّان بالنظر إليها من بعيد، وهي تفتح كتابها على الصفحة نفسها طوال ساعات، غير قادرة على التركيز بسبب الابتسامات التي تربكها على الرغم من بعد المسافة. راحت البومة تتحدَّث بسرعة، كأنَّها تستخدم لغة غير بشرية. حاولتُ أن أقاطعها لأفهم عمّا تتحدَّث.

"توقفي، بماذا تهذين أيَّتها المعتوهة؟"

لكنَّها استمرت غير مكترثة لي. بعد خمس دقائق من هذا الدوران حول نفسها، والهذيان المتواصل من دون توقُّف، صاحت بأعلى صوتها: اذهب من هنا، انصرف على الفور. كانت غاضبة، احمرَّت عيناها، وأخذ رأسها يعلو ويهبط مثل المطرقة.

يبدو أن البوم لطيف وهادئ، لكنّه قد يتحوّل إلى مخلوقات تافهة ومغرورة. في كل حال، ليس لديَّ معرفة كبيرة بعالم البوم. رأيته في أفلام الكرتون ولوحات الفنّانين وقرأت عنه في كتب تتحدث عن أساطير الشعوب القديمة وخرافاتها. وهي طيور منطوية على نفسها، تحب العزلة والعيش في الخرائب والغابات والمناطق البعيدة عن تجمُّعات البشر. فمن أين جاءت هذه البومة اللعينة بكلِّ هذه المعلومات؟ وكيف لها أن تتحدّث؟ هل هي مجرَّد أوهام؟ الحلم، المسدَّس، جنود قتلى في مستوطنة، أُناس من عالم آخر، خُطط محكمة للقضاء على الشر في هذا العالم، بومة تعمل مخبرة لدى جهاز مخابرات أجنبيّ، ماذا بقي أيضًا؟

فجأة، رأيت غرابًا يحطُّ على السور الإسمنتيّ في آخر الشارع، وعندما لاحظته البومة تقلّصت وانكمشت على نفسها. كانت ترتعش في حين شرع الغراب يحدِّق نحونا بعينيه الكبيرتين. نظراته الحادّة تراقب تحرُّكاتنا بدقّة. اختبأت البومة خلف الصخرة. حينما أخذ الغراب ينعق أكثر من مرة، خُيِّل إلَّي أنه وجّه إليها تهديدًا أو وعيدًا ما، هذا ما استطعت التكهُّن به. بعد دقيقة من الهبوط، بسط الغراب جناحيه وطار في اتجاه الغرب. وعندما نظرت إلى الصخرة، كانت البومة قد اختفت.