إن إقرار الغالبية العظمى من أبناء شعبنا على اختلاف تصنيفاتهم بأهمية فكرة الضمان الاجتماعي، وضرورتها في كل مجتمع كحق أساسي من حقوق الإنسان المقررة في الشرعة الدولية وميثاق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الأمم المتحدة، لا يتنافى بحال مع الحركة الاحتجاجية القائمة ضد الشروع بتطبيق قانون الضمان الاجتماعي الفلسطيني، لاعتبارات تتعلق أساسا بحرية التعبير والاحتجاج على التشريعات والسياسات من جهة، ولما حملته هذه الاحتجاجات من مطالب عقلانية غالبا تتعلق بتعديلات أو إضافات تشريعية وإجرائية وغيرها.
ولن يكون هذا المقال للرد على أية وجهة نظر سواءً مؤيدة أو معارضة لخطوة الحكومة باتجاه تطبيق قانون الضمان، بل هو محاولة تستند إلى خبرتي المتواضعة في مجال سياسات سوق العمل، لتحديد الممكنات التي تمثل قواعد ضرورية لنجاح تطبيق هذا القانون وتقليص حجم معارضته للحد الأدنى، هذه المعارضة التي جمعت العمال وأصحاب العمل في مطلب مناف لحقوق العمال كسابقة غير عقلانية في تاريخ النضال العمالي.
وحتى نتمكن من ترسيم القواعد المفقودة لتطبيق القانون، فإنه لابد من الأخذ بعين الاعتبار طبيعة الشعارات والمطالب التي رفعها المحتجون في هذه المواجهة، حيث امتزجت العقلانية المطالبة بالإصلاح والتعديل مع المواقف الرافضة للقانون مبدئيا، لتبرز هنا حقيقة دقيقة تميز بين المحتج لصالح الطبقة العاملة والمحتج لصالحه كمستثمر في حقوق العمال الاجتماعية على مدار خدمتهم في منشآته لحسابه الخاص.
وهنا فإنني لا أعتقد بأنه فيما لو تمت الاستجابة لمجموع المطالب بالتعديل والإضافة على القانون سيكون ذلك كافيا لمسيرة سهلة وموفقة للضمان، بالنظر إلى غياب مجموعة من القواعد الأساسية التي يرتكز إليها بالضرورة، وترتبط بشكل وجوهر القانون وعملياته من الألف إلى الياء، والتي تبدو على النسق التالي:
أولا: تلكؤ المؤسسات الرسمية في تشريع قانون التنظيم النقابي، ويعتبر أحد أهم القوانين الناظمة لسوق العمل باعتباره يمنح الشرعية للنقابات والاتحادات النقابية ومجالس إدارتها التي من حقها أن تقرر السياسات العمالية بالشراكة مع الحكومة وأصحاب العمل، وقد برز الغياب الحقيقي للنقابات أو الاتحادات العمالية وحتى الكتل العمالية التابعة للفصائل ولم تلعب أي دور فاعل على مستوى الشارع للترويج للضمان بحيث بدت وكأنها لا تمثل القوى العاملة الفلسطينية.
وفي ظل هذا الغياب لقانون التنظيم النقابي تصبح كل التساؤلات مشروعة حول مصادر الشرعية لهذه الاتحادات، الأمر الذي يفرض حلا ومسارا إلزاميا للحكومة بالإسراع في تشريع هذا القانون وترسيمه رئاسيا في ظل غياب المجلس التشريعي، ليصار إلى عقد انتخابات عمالية شاملة تبدأ من لجان المنشآت وانتهاءً بقيادات الاتحادات العمالية، مما لا يترك حقا للعامل بالاعتراض على قرارات النقابات واتحاداتها حتى وإن لم يشارك أو ينتسب طوعا لعضويتها وانتخاباتها.
ثانيا: ضعف مؤسسة العمل الحكومية ميدانيا وعدم قدرتها على تنفيذ قوانين تم إقرارها مثل قانون الحد الأدنى للأجور، وهزل الإجراءات العقابية المترتبة على مخالفات العمل وخاصة في السلامة المهنية، الأمر الذي يستدعي تغليظ العقوبات على مخالفات العمل والذي لن يتم دون تطبيق القرارات الحكومية بإنشاء محاكم عمالية مؤهلة، للنظر في قضايا العمال أو أصحاب العمل الحقوقية أو الجزائية في وقت قصير.
وكان من أبرز معالم التناقض في الحركة الاحتجاجية موقف نقابة المحامين *حراس القانون* والتي تعلم إدارتها بأن الغالبية العظمى من أعضائها يوظفون عاملين في مكاتبهم بمبالغ قد تصل للحد الأدنى للأجور، مثلها مثل الكثير من المنشآت الخدماتية التي لا تدفع الأجور بالتزام للعاملين ات، حيث أعلنت هذه النقابة تحفظها على الضمان ولم تنبس ببنت شفة عن إلزام أعضائها بالتزام قانون الحد الأدنى للأجر.
ولعل عدم معالجة هذه الانتهاكات والمخالفات لقانون الحد الأدنى للأجور تضع مصداقية أي قانون آخر تحت التساؤل الاستنكاري لإمكانية أن يؤدي مقتضاه القانوني، مما يفرض على وزارة العمل والجهات الحكومية المعنية المسارعة في تصويب وتصحيح أوضاع الأجور وإلزام المنشآت بقانون العمل وخاصة في مواده التي تتيح الرقابة القانونية على أوضاع العاملين ورواتبهم وحقوقهم الاجتماعية والتي تقع ضمن ذمة صاحب العمل.
ثالثا: إن تطبيق الضمان الاجتماعي بشفافية يقتضي مواءمة كافة القوانين التي تمس موضوع القانون وأجهزة تنفيذه، مثل قوانين انتخاب ممثلي أصحاب العمل والغرف التجارية والصناعية والزراعية، باعتبارهم الشريك الرئيس مع وزارة العمل وممثلي العمال المنتخبين وفق قانون فلسطيني للتنظيم النقابي* خاص أمام حراك عمالي لا يعترف بشرعية النقابات من جانب والسؤال عن من فوض كبار رجال الأعمال ليتحدثوا عن أصحاب العمل في ظل حقيقة أكثر من 95% من المنشآت تصنف صغيرة وذاتية عالميا*، وذلك إلى جانب تطوير قانون المحاكم ليشمل محاكم العمل والضمان بكل ما تتطلبه رزمة القوانين المطلوبة من أدلة إجراءات قضائية وتنفيذية للأحكام الصادرة عن المحاكم المختصة.
رابعا: إن أحد الأركان الهامة لتنظيم سوق العمل والمتعلقة بسن قانون واضح لتصنيف المنشآت الكبرى والمتوسطة والصغيرة والصغرى نظرا لصلته بمقترحات القوانين الخاصة بتحفيز الاستثمار والسياسات الضريبية، وعدم الارتكان إلى تعريفات متعددة "وفق رأس المال أو عدد العاملين...الخ"، لما لهذا التصنيف من أهمية في الواقع الفلسطيني، إلى جانب إقرار تصنيف مهني فلسطيني واقعي للمهن المختلفة ومستويات مهارة العامل المطلوبة لمختلف المهن.
خامسا: إن الضمان الاجتماعي كمنتج للسياسات الاجتماعية والاقتصادية والتشريعية لسوق العمل المتكاملة افتراضا، لا يجب أن يؤخذ في مبررات إطلاقه وتطبيقه منطق المواجهة والقسر باعتبار ذلك يتنافى وروح الشراكة الاجتماعية بين الحكومة وممثلي العمال وأصحاب العمل، التي يجب أن يسودها الحوار على أرضية الاتفاق على المبدأ، ومعالجة الاختلاف بعملياتية بناءة لمختلف تحفظات الأطراف الثلاثة، وهنا يفترض جدلا الحاجة للإكراه في تطبيق الضمان إذا ما اكتملت العناصر التشريعية الأساسية لمكونات مجلس الإدارة، بوجود القوانين الفلسطينية والعمليات الناظمة لها.. بجانب التعديلات العقلانية للحراك والتطوير المطلوب للقوانين واللوائح والإجراءات المساندة.
سادسا: إن عدم وجود خطة إطلاق لتطبيق الضمان شكلت كعب أخيل، والذي تجلى في ضعف أداء إدارتي الصندوق السياساتية والتنفيذية، حيث قدمتا المزيد من الحجج والمبررات لرافضي القانون أصولا ووفرتا مادة التحريض العبثي والعدمي والشعبوي ضد القانون بأهداف سامية، وهو الأمر الذي يستدعي بناء خطة عمل متوسطة المدى لترويج الصندوق اجتماعيا واقتصاديا، والذي لا يتم بإدارة تقليدية للأعمال المالية، بل بقيادة إدارية تدرك أهمية تبسيط مفاهيم العدالة الاجتماعية والاقتصادية وتؤمن بها، لكي تستطيع مخاطبة الجمهور وجها لوجه وفي مواقعه ومنشآته وتجنيده لصالح الفكرة، بعد التعثر الذريع في تسويقه مع الشركاء على الأرض.
إن الإيمان المطلق بضرورة وجود وتطبيق قانون الضمان الاجتماعي وكما يؤكد معظم قادة الحراك العمالي تحديدا، يفرض علينا جميعا الذهاب نحو طاولة الحوار، وضمن سقف زمني يتوافق عليه الجميع، وعدم الانفضاض تحت أي ظرف وصولا إلى المشترك في المفاهيم والخطوات الأمثل للتطبيق دون اشتراطات مسبقة مفسدة لروح الشراكة الثلاثية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أهمية مبادرة الحكومة بتفعيل حوارها الاجتماعي مع كافة الأطراف المجتمعية من عمال وأصحاب عمل ومؤسسات مجتمع مدني مسؤولة، باعتبار ذلك حق قانوني لأطراف الإنتاج ، وذلك تواكبا مع إنجاز كافة المتطلبات والقواعد الأساسية وخاصة التصحيح والتطوير القانوني بما يكفل الاستجابة للمعقول والمتعارف عليه من متطلبات الحراك، ورزمة التطوير القانوني لمختلف القوانين ذات الصلة بميلاد مؤسسة عتيدة كالضمان .
وإن كان للحديث بقية فإنه لا بد من التأكيد على المسؤولية الاجتماعية والوطنية الكبيرة المترتبة على القطاع الخاص وأصحاب العمل، فتوفير الحماية الاجتماعية للعامل بعد نهاية خدمته يساهم بشكل كبير في تنمية انتمائه للمنشأة وينعكس ايجابياعلى انتاجيته طوال فترة عمله، ألا يستحق هذا العامل الذي يشكل صانعا للثروة ضمان كرامة شيخوخته؟؟ ألا يستحق هذا المجتمع وهذا الوطن الذي بنيتم فيه ثرواتكم مساهمتكم في الحد من مستويات الفقر والعوز؟؟.
وعلى أهمية دور القطاع الخاص في بناء الدولة الوطنية، فإن هؤلاء العمال والفقراء الذين يشكلون أضحية العمل الوطني للتحرر والاستقلال،يبقون العمود الفقري للوطن والاقتصاد والمجتمع الذي يجب حمايته وصون كرامته… ولا كرامة لأحد ان لم تكن أولا كرامة العامل صانع حرية وثروة المجتمعات .