الحدث ــ محمد بدر
""صورة الانتصار" و"صورة الهزيمة" أصبحتا تشغلان المستويات العليا في الجيوش التي تقاتل "جماعات مسلحة منظمة"، خاصة في المعارك التكتيكية (جولات القتال المحدودة) التي لا يترتب عليها خسائر استراتيجية. هذا الاهتمام بهذا النوع من الصور، يذكرنا بأهمية "اللغة السامة" وبأهمية الخطاب المرئي وما يحمل من معان تنقلها الرموز المكونة للصورة. لقد كانت الجولة الأخيرة من القتال على حدود قطاع غزة والتي بدأت قبل أسبوع تقريبا؛ مليئة بالتطبيقات العملية في البحث عن الصورة، وقد أتقنت المقاومة الفلسطينية التقاط الصورة، وبالتالي استطاعت المناورة بالموقف لصالحها، وسجلت انتصارا يمكن وصفه بالانتصار الإدراكي. وفي مقابل تكثيف الاحتلال من قصفه للمؤسسات والمباني الكبيرة، كثفت المقاومة من قصفها لمستوطنات الاحتلال بصواريخ ذات قوة تدميرية عالية، ولكن الصورة لم تخرج من الركام، وخرجت من مكان مختلف تماما.
لقد كانت مشاهد الفلسطينيين الذين خرجوا للشوارع في قطاع غزة وتوزيعهم للحلوى، كفيلة بصنع "الصورة الأخيرة"، لأن صور الدمار قابلها صور دمار، وصور القصف قابلها صور قصف، ولكن خاتمة المشهد كانت كافية لكي تدلي بصوتها للمنتصر، وبعد ساعات قليلة كانت شوارع مستوطنات غلاف غزة مليئة بالمحتجين، الذين تأثروا بالصورة الأسرع والأخيرة.
إن النتيجة أو السلوك المنبثق عن الصورة (التظاهرات والاحتجاجات) يحدد بالأساس مقدار التوازن داخل الذات وكذلك مقدار الثبات في مواجهة التوتر المتلقى من المحيط، وعليه يمكن الافتراض أن العملية ليست فيزيائية أو أنها ناتجة عن مجرد تفاعل الضوء (ضوء الصورة) مع عين المستوطن، بل هي معركة بين كمال الذات والعناصر الموجهة، والنتيجة الإدراكية تكمن في الشعور بالهزيمة أو الانتصار.
ومع ذلك، فإنه يمكننا القول إن الصورة التي بثتها المقاومة سواء للاحتفالات تضاف لصور لمنصات الصواريخ قد صنعت معركة داخل ذات الإسرائيلي الذي يسكن الجنوب؛ معركة بين الافتراض والتوتر، وأخلت بتوازنه من خلال التوتر الذي بثته الصورة، فكانت معركة القوى بين الإدراك والذات الأساسية لصالح التوتر الذي خلقته الصورة.
وانعكست النتيجة في هذا الصراع بين الذات والتوتر على شكل تعبيرات مختلفة، منها خروج بعض العائلات من عسقلان وبعض المستوطنات الجنوبية، وكذلك المظاهرات في المستوطنات الجنوبية والتي أكدت في غالبيتها على هزيمة الجيش الإسرائيلي في مواجهة المقاومة الفلسطينية. إن النتيجة الإدراكية بعد هذه المعركة بين الذات والتوتر، تكشف عن "القصدية" بحسب تعبير غريماس، والتي ترتبط بشكل أساسي بالنقص والخيبة المتراكمة داخل ذوات المستوطنين، وتكشف عن تغيير منهجي في وحدات تحليلهم للصور والأخبار، وهو ما يؤكد وجود فجوة حسية بين الظاهر والمرتقب لدى المستوطن الجنوبي.
إن الصور التي خرجت بها جولة القتال الأخيرة، استطاعت أن تحتل مساحة في المساحة الابتسمولوجية لدى المستوطن الإسرائيلي (مع التأكيد على سياق العملية)، يمكن أن تستخدم لاحقا في المناورات القيمية والأخلاقية والنفسية، وصولا لأن تخلق "عقدا ائتمانيا" مع هذا المستوطن، فيصبح هذا المستوطن مرتبطا بعدوه، لكن ذلك يتطلب أن تتراكم الصور في مرحلة لاحقة، وأن يتوفر فيها التنسيق والدلالة والسرعة. ولكننا وللدقة، حين نتحدث عن هذا العقد الائتماني فإنه قد خُلق فعلا بين المستوطنين وحزب الله وتحديدا حسن نصرالله، الذي أصبحت كلماته وتهديداته ذات مصداقية لدى المستوطنين في الجبهة الشمالية أكثر من تصريحات الجيش ونتنياهو. ولقد استطاعت المقاومة الفلسطينية بعد عدة جولات من القتال بدءا من العام 2006 وحتى اليوم من تحقيق شروط هذا العقد نسبيا.
يقول بول جيرار في كتابه "أشياء مخفية منذ تأسيس العالم" إن اطراد العلاقات الثنائية يكفي لتجزئة الروح الاجتماعية إلى ما لا نهاية ونشر العنف فيها بطريقة غير متوقعة". ويعمل التجزيء على فصل الذات عن الضرورة المعرفية. ومن ثم تنشأ علاقات ارتباط وبناء يمكن ضمانها من خلال التكثيف في الرسائل التوتيرية. بناء التجزيء يؤدي لبناء التوترات لنفسها كـ"كل". وقد يتعايش المبدءان وتتسارع عمليات بناء التجزيء وعمليات بناء التوترات. إن هذه العمليات بدءا من النتيجة الإدراكية وصولا إلى عمليات بناء التوترات في الحيز التقليدي للقيم، يوصل المتلقي لمرحلة بناء الابتسمولوجيات الخاصة المختلفة تماما عن التقليدية. إن ذات المستوطن حين تتقبل هذه الصورة بمعانيها، وتتفاعل معها ضمن خطتها، فيخرج المستوطن غاضبا معلنا الهزيمة، تكون ذاته قد أتاحت عمليا لمعاني هذه الصورة أن تنتظم فيها، من خلال مرور ذاته في المراحل سابقة الذكر. وبالنسبة للصورة الأساسية صاحبة التأثير، فإنها تكشف عن صياغتها من خلال السيناريوهات التي فتحتها في السلوك.
وعن السيناريوهات التي تفتحها الصورة في السلوك، يقول الجنرال الإسرائيلي رونين كوهين مسؤول قسم الأبحاث الاستخبارات العسكرية سابقا: "عندما ننظر إلى عقدين أو ثلاثة عقود إلى الوراء، ونرى تراكم قوة حماس في الجنوب وحزب الله في الشمال، ندرك حجم فشلنا.. حروب اليوم تتأثر بشدة بالجانب المعرفي، وتعتمد على ما يراه الجمهور من صور وأخبار في وسائل الإعلام، وما تخلقه هذه الصور من صدمة لديهم تعجّل من هروبهم". وانطلاقا من نفس المبدأ الذي تحدث عنه كوهين ، صرّح مسؤول الإعلام الحربي في حزب الله لجريدة الديار: "الرصاصة تقتل مجندا، والصورة تقتل مجتمعا".