لا يختلف اثنان أن منظومة الضمان الإجتماعي في أي دولة هي انعكاس لالتزام النظام السياسي فيها بتعزيز رفاهية السكان من خلال اتخاذ التدابير التي تضمن الحصول على ما يكفي من الموارد للغذاء والمأوى ومن أجل تحسين الصحة ورفاهية قطاعات واسعة من السكان المرشحة بحكم تكوينها لأن تكون ضعيفة مثل الأطفال وكبار السن والمرضى والعاطلين عن العمل. من ناحية أخرى فإن الضمان الإجتماعي هو حق أساسي من حقوق الإنسان بموجب المادة (22) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي تنص على أن "لكلِّ شخص، بوصفه عضوًا في المجتمع، حقٌّ في الضمان الاجتماعي، ومن حقِّه أن يوفَّر له، من خلال المجهود القومي والتعاون الدولي، وبما يتَّفق مع هيكل كلّ دولة ومواردها، الحقوقُ الاقتصاديةُ والاجتماعيةُ والثقافيةُ التي لا غنى عنها لكرامته ولتنامي شخصيته في حرِّية". وفي الحالة الفلسطينية، فقد نصت المادة (22) من القانون الأساسي المعدل على أنه "ينظم القانون خدمات التأمين الاجتماعي والصحي ومعاشات العجز والشيخوخة...".
على الرغم مما ورد أعلاه، فلماذا يتسبب تطبيق قانون الضمان الاجتماعي في هذه الأيام بحراك واسع النطاق ومحموم بين أهم المستفيدين منه وهم طبقة العمال والموظفين في القطاع الخاص، وأرباب العمل؟، ولماذا تقتصر شريحة المهللين والراغبين في تطبيق القانون على الحكومة الفلسطينية وأقلية خجولة من مؤسسات وموظفي القطاع الخاص، والذين أسقط في يد بعضهم ولم يجدوا مفرا من الانخراط فيه؟. وما هو تفسير ظاهرة الاصطفاف الواسع ضد التطبيق في الوقت الذي يكاد يغيب هذا الاصطفاف عن القضايا الوطنية الأساسية، ناهيك عن اللامبالاة التي يواجه فيها الشارع المجازر التي تحدث بشكل شبه يومي بحق أهلنا في قطاع غزة؟.
للأسف الشديد فقد اختلط الحابل بالنابل في الشارع الفلسطيني في الموقف من القانون، لدرجة أن الأمر قد وصل إلى حد العصيان في بعض المحافظات مثل الخليل، وعلى الرغم من ذلك لا يبدو في الأفق ما ينبئ بأن هذه الأزمة في طريقها للحل، خاصة وأن حكومتنا الرشيدة ماضية في التطبيق، وعلى ما يبدو لا ترى في حجم واتساع رقعة المعارضة سببا كافيا لمراجعة قراراتها في هذا المجال.
أنا لست أكاديميا أو أكتواريا أو خبيرا في قضايا الضمان الاجتماعي، ولا غيره من هذه المسميات، ما أنا إلا مجرد شخص عاد إلى وطنه في أول فرصة سانحة، واستثمر كل مدخراته بقناعة أنه "لا يحرث الأرض إلا عجولها"، وأسس شركة مقاولات حينما كان "بناء الوطن" شعارا براقا، ويحاول جاهدا أن يبقيها على قيد الحياة لأجل العيش بكرامة منها، ولأجل أبنائي وبناتي أسرة الشركة من مهندسين ومختصين في كافة المجالات، ممن ربطوا مصيرهم بمصيرها ويعملون فيها منذ سنوات، ويتمنون مثلي أن تظل قائمة لأنها مصدر دخلهم وشعورهم بالأمان (وهذا حال الكثير من شركاتنا في الوطن)، وفي ظل معمعان الحراك مع وضد تطبيق القانون أجد نفسي مقتنعا بفكرة الضمان ومتحفظا على التطبيق، وأجد زملائي مقتنعين بالفكرة ورافضين لها بنفس الوقت على الرغم من أنهم المستفيد الأول من تطبيقها، وإنني أجزم أن هذه الحالة عامة ولا تقتصر على شركتي.
في سبيل البحث عن المخارج المشرفة للجميع، لا بد من الإصغاء لتخوفات وتحفظات ومواقف كافة الأطرف للخروج بنهاية مشرفة لهذه الأزمة المتفاقمة.
بشكل عام، نبدأ بأصحاب العمل الذين أمثلهم، إلى حد ما نحن لسنا ضد القانون وتطبيقه من حيث المبدأ، في ظل ظروف تسمح بالتطبيق والنجاح في تحقيق أهدافه. نحن في اتحاد رجال الأعمال متفقون على أن صندوق الضمان ضرورة استراتيجية في مرحلة ما، تطبيقا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حيث يتحقق الأمان للفرد في لحظات ضعفه وشيخوخته ومرضه ولا توجد مؤسسة قادرة على تحقيق هذه الأهداف أكثر من صندوق ضمان يضم جميع العاملين في الوطن ليتكافلوا في دعم بعضهم البعض كعائلة كبيرة، قويهم يسند ضعيفهم، ولكن السؤال الكبير والمهم هنا هو موضوع استدامة هذه المؤسسة وقدرتها على أداء هذا الدور في ظل ظروف التشرذم والانقسام والمرحلية السياسية والعدوان الإسرائيلي المستمر على مقدراتنا وحاضرنا ومستقبلنا.
نحن والشارع أيضا نرى بأن أمل هذه المؤسسة بأن تحقق نجاحات كبيرة في الاستثمار في ظل الأوضاع القائمة في فلسطين ضعيفة جدا، حيث أن المؤسسات الاقتصادية بهذا الحجم الهائل تحتاج إلى إدارات خارقة القدرة والذكاء والمسؤولية والانتماء والنزاهة والشفافية والأخلاق وغيرها من الصفات، عدا عن متطلب توفر ظروف استثمار تسمح بتنمية الأموال، وإذا نجحت هذه المؤسسة وتوفرت لها كل الظروف المواتية فيخشى القطاع الخاص أن تقوم هذه المؤسسة بمنافسته في رزقه ومجال عمله، وحيث إنها الأقوى فلا توجد ضمانات بأنها لن تؤثر على دوره ورزقه. وأيضا سيقوم صندوق الضمان بسحب سيولة نقدية كبيرة من السوق ومن أيدي الشركات والعاملين ولن يستطيع إعادة ضخها على شكل استثمارات قبل عدة سنوات، وذلك بسبب عدم وجود جهاز استثماري لدى المؤسسة (بحسب علمي) أو وجود أي خطط استثمارية، وهذه الأمور في بلدي تحتاج لسنوات لتشكيلها واعتماد خططها وإقرارها بشكل سليم، وإن تم الاستثمار بشكل فرضي وسريع فالمصيبة أكبر.
أما السؤال الأهم فهو لماذا يرفض المستفيدون من هذا الصندوق الانضمام إليه ويعارضونه بشدة؟. أعتقد أن الجواب يأتي ببساطة بأن الإنسان يبدأ بالادخار بعد أن يسد جوعه ويؤمن احتياجاته الأساسية، وفي حال فلسطين فإن الأغلبية العظمى من الشعب الفلسطيني تكافح يوميا من أجل لقمة العيش الكريم فقط وليس لديها أي قدرة على الادخار، إذن فإن اليوم الأسود الذي يدخر الناس لأجله هو اليوم وليس غدا. أما أصحاب الحظ من أبناء الشعب ممن يتجاوز دخلهم احتياجاتهم الأساسية، فقد وقع معظمهم فريسة أحلامهم بشراء مركبات وشقق ومستلزمات رفاهية أخرى، ومعظمهم بالكاد يستطيع سداد أقساطه الشهرية، والأكثر حظا يعرفون كيف يستثمرون، لربما أفضل من صندوق الضمان، وهم قادرون على وضع الخطط لمستقبلهم.
وحيث إن المستقبل في وطننا غير مضمون لأحد بالمطلق، فالجميع يريد أن يعيش يومه، ولا يوجد لأي مواطن في فلسطين ضمانة ضد تدخل الاحتلال في مقدارته وتدميرها مثلما فعل أكثر من مرة سابقا. ناهيك عن أن الشعور العام بين المعارضين أن مجرد عدم ضمان الحكومة والنظام السياسي لموارد الصندوق بسبب الظروف السياسية لهو دليل قاطع بأن مستقبل الصندوق سيكون دائما مهددا بتطورات الوضع الميداني.
وهنا أخلص إلى أن الجهة الوحيدة التي تريد ولادة هذا المولود في هذه الظروف الصعبة هي الحكومة، وفي الوقت الذي أقدر لها جهودها ومبادراتها لإخراج القانون والصندوق إلى حيز التنفيذ، وأتفهم دوافعها الوطنية للقيام بمثل هذه الخطوة، لغايات التمكن من استعادة مستحقات عمّالنا الذين عملوا في "إسرائيل" وأموالهم المستثمرة في "إسرائيل"، إضافة إلى حشد الموارد المالية لتدويرها في السوق المحلي عبر الاستثمارات المنتظرة، مما قد يخلق العديد من فرص العمل، واتفهم رغبة الدولة في وجود صندوق استثمار كبير قد يقود التنمية ويوجهها (وقد لا يفعل للأسف حيث أنه صندوق لا علاقة للدولة به أو بإدارته، فهو للمجتمع ومستقل عن تدخل الدولة به). إلا أن معطيات الواقع وحجم الإحتقان والحراك تستدعي من الحكومة والنظام السياسي بشكل عام أخذ زمام المبادرة لإخراجنا جميعا من هذا السرداب المجتمعي بأقل الخسائر، وتجنيب شعبنا المزيد من التشرذم والإختلاف، في ظل توحد الأحزاب الإسرائيلية في سعيها لتدمير غزة ووأد سعينا لتحقيق الاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
إن تصلب المواقف المتعارضة من تطبيق القانون وضعنا جميعا على رأس شجرة عالية، وتقتضي الحكمة والحرص والمصلحة الوطنية أن نتعاون جميعا في النزول عنها، حيث لا يوجد هنا فرقاء خاسرون وآخرون رابحون، وإنما مجموع خاسر أو مجموع رابح فقط. إن حالة الاحتقان القائمة والمتزايدة في الشارع الفلسطيني في ظل ظروفنا، التي تتسابق الأحزاب الإسرائيلية فيها على التباري حول من يقتل أكثر ومن يدمر أكثر، وتعجز الفصائل الفلسطينية فيها عن لم الشمل الفلسطيني، وتقوم الإدارة المدنية فيها بتكريس مفهوم الكانتونات الفلسطينية، لن تؤدي إلا إلى المزيد من الشرذمة وانتشار اليأس وتزايد الدوافع للهجرة هربا من مواجهة الظروف. والله من وراء القصد.