عادة ما يستدعي مصطلح الحداثة في المجتمعات المنغلقة سنَّ السَّكاكين، وصولاً إلى اتِّحاد بعض المجموعات الَّتي تصل العلاقة بينها حدَّ التَّناقض أَحياناً، تحت راية الحرب ضدَّ الحداثة، والحداثويِّين، في محاولة للدِّفاع عن نقطة، أَو نقاط، تبدو مضيئة في الماضي، إذ يُنظر للحداثة على أَنَّها محاولة لكسر مجموعة من المفاهيم المتأَصِّلة الَّتي أَفرزتها مرحلة بعينها، وبالتَّالي الانقلاب على المجتمع، وتغيير هويَّته.
والحداثة لغة كما هو مفهوم، هي أَوَّل الأُمور، الأَشياء، ابتداؤها، وحداثة السنِّ تعني صغر السنِّ، وأَوَّل العمر، وحداثة هي مصدر حدُثَ، وما حدثَ هو ما جرى...
أَمَّا اصطلاحاً، فهي مفهوم فلسفيٌّ يعني تحديث ما هو قديم، وهو مصطلح مرتبط بمرحلة تاريخيَّة معينة، مرَّت بها أَوروبَّا، لها سماتها، ومفكِّروها، وفنَّانوها، الخ...ويبرز أَساساً هذا المصطلح على الصَّعيد الثَّقافيِّ، والفكريِّ، والتَّاريخيِّ، ليدلَّ على هذه المرحلة.
وبالنَّظر إلى تعريف الحداثة، سواء لغة، أَو اصطلاحاً، يمكن لنا ببساطة أَن ندرك أَنَّ الحداثة تتجلَّى على مستويات متفاوتة، سواء على صعيد الشَّكل، أَو المضمون، أَو على صعيد الشَّكل والمضمون معاً.
لا شكَّ أَنَّ هناك خلافاً في تحديد المرحلة التَّاريخيَّة للحداثة الأَوروبيَّة، فثمَّة من يقول إنَّها ابتدأَت مع ديكارت، ونيوتن، وغاليلو، وكوبيرنيكوس، وثمَّة من يعتبر الثَّورة الصِّناعيَّة بداية للحداثة، وثمَّة من عدَّ آلة الطِّباعة الَّتي اخترعها الحدَّاد الأَلماني يوهان غوتنبرغ، بداية للحداثة، وثمَّة من ذهب إلى أَبعد من ذلك، فربط الحداثة بنهايات القرن الثَّاني عشر، مع بداية إعمال العقل داخل الكنيسة نفسها، من قبل بعض رجال الكهنوت الَّذين دشَّنوا مرحلة بداية التمرُّد على الكنسية، وطريقة تفكيرها، وصولاً إلى ثورة مارتن لوثر....واللُّوثريَّة.
رغم كلَّ هذه المحاولات لضبط مفهوم الحداثة في أَوروبَّا، إلاَّ أَنَّها جميعاً تصبُّ في خانة واحدة، مفادها أَنَّ تطوُّراً طبيعيَّاً حدث في المجتمع الأُوروبيِّ أَدَّى كنتيجة طبيعيَّة إلى بروز الحداثة، أَي أَنَّ الحداثة بدأَت من المجتمع ذاته، من حركة المجتمع، وتطوِّره، ما حدا بالمفكِّرين إلى التقاط هذه الفكرة، ومحاولة إشباعها على الصَّعيد النَّظريِّ، وإعادة تعريفها مع كلِّ انقلاب حقيقيٍّ داخل المجتمع، ومواكبتها، حيث نجد أَنَّ هؤلاء المنظِّرين هم جزء طبيعيٌّ من حركة الحداثة ذاتها، آخذين بعين الإعتبار أَنَّ المجتمع لم يسلِّم بالحداثة، وإنَّما ظهرت الحداثة كثورة داخل المجتمع المحافظ، وأَخذت بالتَّوسُّع نتيجة لظروف كثيرة، أَهمُّها الاكتشافات العلميَّة، ونشوء طبقة رأس المال الَّتي وجدت مصلحتها مع الفكرة الجديدة، فدعمتها، واعتبرتْ منظِّريها جزءاً من حركة رأس المال نفسه.
ثمَّة عوامل كثيرة جدَّاً لا سبيل هنا لحصرها في مقالة سريعة، لكنَّ الفكرة الأَهمَّ هي أَنَّ حركة الحداثة الأَوروبيَّة، عبَّرت عن تطوِّر طبيعيٍّ في المجتمعات الأَوروبيَّة، ولاقت ظروفاً مناسبة، لذا كُتب لها النَّجاح.
فهل يعني هذا، فيما يعني، أَنَّ المجتمعات الأُخرى، قابلة للتَّحديث بنفس الطَّريقة؟ هل الحداثة مفهوم صالح لكلِّ زمان ومكان؟ أَلم ينقلب الكثير من المفكِّرين والفلاسفة الأُوروبيِّين أَنفسهم على الحداثة، ويحملوها مسؤوليَّة حربين عالميَّتين؟
ممَّا لا شكَّ فيه أَبداً، أَنَّ هناك خلط واضح لدى كثير من المثقَّفين العرب، بين مدرسة الحداثة، وما سُمِّي بمدرسة ما بعد الحداثة في أَوروبَّا، وما بين مفهوم الحداثة، ومفهوم التَّحديث.
إنَّ الحداثة كفكرة فلسفيَّة، هي فكرة إنسانيَّة إجتماعيَّة ترتبط بالحركة، والبحث الدَّائب عن الحقيقة، والتطوُّر البشري، والتغيير المستمرِّ، والاستعداد لتغيير نمط التَّفكير، فلا يمكن لأَيِّ مجتمع أَن يتحدَّث –من حداثة وليس تحديثاً- دون تغيير نمط التَّفكير، وهنا يكمن مفهوم الحداثة بالذَّات، لكنَّ التَّغيُّر في نمط التَّفكير بحاجة إلى تغيُّر في البنية الدَّاخليَّة الاجتماعيَّة، الاقتصاديَّة، السِّياسيَّة، وحتَّى السَّيكلوجيَّة أَحياناً، ما يستدعي وجود طرفين: الأَوَّل هو المفكِّر الفذُّ الَّذي يستطيع تفكيك المجتمع، وتقديم نظريَّات بشأنه، والطَّرف الثَّاني، هو الطَّرف الَّذي يمثِّل تجلِّي هذه الأَفكار، واقعيَّاً، يؤمن بها، ويدافع عنها، ويروِّج لها، وهو طرف سياسيٌّ على الأَغلب، يتمثَّل في حزب أَو دولة، أَو أَيِّ كيان سياسيٍّ يضمن أَلاَّ تبقى هذه الأَفكار مجرَّد حبر على ورق محفوظ في الأَدراج.
لا شكَّ أَنَّ الحداثة فكرة منقلبة على ذاتها، كمفهوم، فأَيُّ فكرة حداثيَّة سيتجاوزها المجتمع، في لحظة تاريخيَّة ما، لأَنَّ المجتمعات أَصلاً لا تتوقَّف عن الصِّراع، والحركة، ما يعني بالضَّرورة أَنَّ ثقافتها متحرِّكة، وهويَّتها متحرِّكة، والسُّكون هنا يعني أَن تتجاوز الحضارات العالميَّة المجتمع، وتسبقه بأَشواط، وبالتَّالي سيصبح هذا المجتمع مصاباً بالجمود، والتخلُّف، ولا يلبِّي شروط الحياة، ما يعني أَنَّه سيصبح مستعبداً في مرحلة ما، وصولاً إلى تفكيك ثقافته، وهويَّته، ولغته، مع الزَّمن، واندغامها في هويَّة، وثقافة المُستَعمِر، ما يتطلَّب، بالضَّرورة، ثورة الحداثة على ذاتها، وإنتاج حداثة جديدة، كشرط للاستمرار، والتَّجلِّي، والتَّمثُّل الحضاري، وهذا بالضَّبط ما يحدث في المجتمعات المتطوِّرة الَّتي تنتج الأَفكار.
إنَّ تأَثُّر المثقَّف العربي بحداثة أُوروبَّا أَدَّى إلى توسيع الهوَّة بين المثقَّف والمجتمع، فكلَّما زاد المثقَّف حداثة، زادت غربته عن المجتمع، وانسلاخه عنه.
لقد مرَّت المجتمعات العربيَّة، والإسلاميَّة، بمراحل حداثويَّة متعدِّدة، فأَعادت إنتاج نفسها، وتجلِّيها، خلال مفاصل تاريخيَّة، شهدت صراعاً حادَّاً، وصل إلى الدَّمويَّة في كثير من الأَحيان، لكنَّه أَعاد إنتاج الدَّولة الإسلاميَّة، بطريقة أَو بأُخرى، بحلَّة جديدة، سواء فكريَّاً، أَو سياسيَّاً، ومن نافل القول إنَّ الصِّراع الدَّاخليَّ كان يتركَّز أَصلاً على تفسير النصِّ المقدَّس، وفهمه، كأَساس للتَّشريع، وفهم الحياة، والواقع، ومحاولة إعادة إنتاج تفسير لهذا النصِّ بما يتلاءم مع حركة المجتمع، تصاعديَّاً، لكنَّ ذلك لم يعنِ أَبداً أَنَّ هذه الحركة، لم تتعرَّض لقوى شدٍّ عكسيَّة، كانت تسحب المجتمع في مراحل شتَّى إلى الخلف، حين تجد تجلِّياتها السِّياسيَّة، فالأَصل في عمليَّة التَّطوُّر هذه، والتَّمثُّل، كان الصِّراع بين قوى فكريَّة متعدِّدة، وأَقطاب، ضمن المجتمع، بعضها يحاول تطويع النصِّ المقَّدس –وهي مقتنعة تماماً بأَنَّه صالح لكلِّ زمن ومكان- ليخدم واقع حركة المجتمع، واندفاعه، وبعضها كان يقوم بعمليَّة شدٍّ عكسيَّة، ومحاولة تأطير المجتمع، حسب الفهم الجامد للنصِّ، خوفاً من أَن تتجاوز حركة المجتمع النصَّ، وبالتَّالي، تنهار المرجعيَّات الفكريَّة، لتحلَّ محلَّها قوانين وضعيَّة.
لقد شهدت المجتمعات الإسلاميَّة، وضمنها العربيَّة، قوى شدٍّ ودفع، وتنافر، وتجاذب، أَدَّى إلى التَّفتُّت في مراحل متعدِّدة، كثيرة، حسب التجليَّات السِّياسيَّة للأَفكار المطروحة، وقد خاضت الدَّولة الإسلاميَّة، الكثير من الحروب والصِّراعات الدَّاخليَّة، والخارجيَّة، أَدَّت فيما أَدَّت إلى بروز مفكِّرين في كلِّ جهة، كلٌّ يحاول تفسير النصِّ، وتطويعه لخدمة مشروعه، وتبريره، لكنَّ ذلك لم يمنع طبعاً من وجود محطَّات فكريَّة إسلاميَّة قامت بالتأسيس لمنهج فكريٍّ بعينه، تمَّ استدعاؤها في مرحلة ما، تاريخيَّة، حديثة، من الماضي، لتكون فكريَّاً عنواناً لهذه المرحلة، دون الالتفات إلى طبيعة المرحلة الَّتي تتطلَّب بالضَّرورة أَمام أَيِّ استدعاء، إعادة تدوير الأَفكار، من قبل نخبة من المفكِّرين، وتنقيتها من الشَّوائب الَّتي علقت بها عبر الزَّمن، وتطويعها بما يتلائم مع المرحلة اللاَّحقة، الَّتي تحمل سمات لا بدَّ أَن تكون مختلفة مع مرور الوقت، وتطوُّر المجتمعات.
قد تُسمَّى تلك الحالة "بالتطويع التاريخي" إن جاز لي أَن أُعبِّر عنها بهذا المصطلح، وهي بالضَّرورة عكس الحداثة، حيث تتبنَّى منظومة سياسيَّة أَفكاراً من الماضي، تعبِّر عن مصالحها، فتنقلها، وتعمل بها، دون إضافة، أَو تمحيص، أَو تفكيك، أَو إعادة إنتاج، وتفرضها على المجتمع وتجعلها مرجعيَّة له، وتطوِّع المجتمع ليتلاءم مع هذه الأَفكار، ولأَنَّ المجتمع بالضَّرورة سيكون قد تجاوزها، ستحاول هذه القوى فرضها بكلِّ الوسائل، وعلى رأس تلك الوسائل الحديد والنَّار.
إنَّ ما جرى في الوطن العربيِّ هو تفتُّت حضاريٌّ خلق حالة تيه وصل في مراحل متقدِّمة إلى تآكل جزء من الهويَّة، فالتقسيم السَّايكس-بيكويُّ أَدَّى إلى غياب المرجعيَّة الموحَّدة، سواء على صعيد اللُّغة، أَو على صعيد الأَفكار، والاختلاف الثَّقافي ضمن الدَّائرة الواحدة، حيث تحاول الأَنظمة السياسيَّة، الأَمنيَّة، العمل على خلق مرجعيَّات لها ذاتيَّة، ضمن الإطار الجغرافيِّ، تبرِّر من خلالها وجودها، وتسنده، عقائديَّاً، وتحارب كلَّ ما عداه، ما خلق بطبيعة الحال تناقضاً فكريَّاً، أَيدولوجيَّاً، ما زال يتوسَّع بين هذه الدُول.
من هنا، من هذا المنطلق، بعيداً عن تلك الأَنظمة السِّياسيَّة الَّتي اتَّخذت مرجعيَّات تاريخيَّة ثابتة كدستور لها، ولا تفتأُ تجاهر بذلك، وتحارب أَيَّ تغيير في المجتمع باسم الموروث الدِّينيِّ، هناك الأَنظمة السِّياسيَّة الَّتي تدَّعي محاولة اللَّحاق بركب الحضارة، وهي في حقيقة الأَمر أَبعد ما تكون عن ذلك، ولا تختلف كثيراً عن سابقتها، سوى أَنَّ الأُولى مرتبطة بشكل مباشر مع الأَفكار الدِّينيَّة في لحظة تاريخيَّة معيَّنة، والثَّانية ترتبط مع اللَّحظة ذاتها، ولكن بوجود وسيط، وهو القوى الدِّينيَّة المتعصِّبة الَّتي تتحالف معها هذه السُّلطة، لأَنَّها تدرك أَنَّ انهيار هذا التَّحالف، وحداثة المجتمع، بالمعنى الَّذي ورد هنا للحداثة، سيعني بالضَّرورة أَنَّ هذه الحداثة ستبدأُ بها بالذَّات، أَوَّل ما تبدأُ، لأَنَّها العائق الحقيقيُّ بين مفهوم الحداثة كطريقة تفكير اجتماعيٍّ، وبين المجتمع.