هنا حيث احتمالاتُ القولِ تُضّيقُ من مساحاتِ الأُفق، سأحاولُ جاهداً أن أقفَ أمامَ مجازِ العلو لدى مهند في هذا الاقتراحِ الشعري، بين المدخلِ والمخرج.
والمدخلُ عندَ مهند والموصوفُ هنا بالمقدمةِ التي كتبَها لنفسهِ عن نفسهِ في محاولةٍ لتقديمِ ما يجهلُهُ عن نفسهِ، ربما من خلالِ ما قدمهُ لنا من نصوصٍ في هذه المجموعةِ المُحرضة لفعلِ القراءةِ بشغفٍ وحب، عوضاً عن القراءةِ بحياديةٍ قد تساعدُ القارئَ على فهمِ ما يراهُ الشاعرُ أو ما يُحاولُ اخفاءَهُ مما يرى.
هنا كان مهند يتنهدُ الكون والأشياء من حولهِ، لا ليقولَ هذا أنا، ولكن ليؤكدَ لنا، هذا ما يُمكنُ أن تَروني عليهِ في مراياكُم، حيثُ العينُ تُشبهُ العينَ والندبةُ نفسُ الندبة، وتجاعيدُ الوجهِ هي نفسُها تجاعيدُ اليد.. في مرايانا يدفعُنا الشاعرُ لمنحِ الوقتِ فرصةً لينسانا كما ينسى حبيبتَهُ.
هنا حاولَ الشاعرُ مهند أن يمشى على غيرِ هدى، وهو يعلمُ بدقةٍ موصوفةٍ كم حرفاً يفصلُ بينهُ وبينَ الجملةِ التالية، تماماً كما يعلمُ كيفَ يقدمُ الشيءَ وضدَّهُ بوصفهِ خياراً محتملاً لاتخاذِ القرارِ بالموتِ المؤجل.
فنجده يقول: أخطأتُ حين كسرتُ بابَ حقيقتي/ ورضيتُ بي وجهاً يُشابِهُ خاصِرة! / أخطأتُ كم أخطأتُ في عدّ المقابرِ داخلي/ في عدّ من ماتوا على شرفِ البقاء.
هذا ما أرادَهُ مهند منذُ المدخلِ وهو يعترفُ: أزعم أنني أعرفُني جيداً، وأجهلُني جيداً، وتكرارُ كلمةِ جيداً هنا لم تأتِ على سبيلِ المصادفة، ولم تكن بشكلٍ اعتباطيٍ، فهو الشاعرُ نفسُهُ الذي كررَ في المخرجِ ما قالَهُ لأستاذهِ ذاتَ يوم: إنني أرتاحُ إلى المجهول" وبعدَ حينٍ راحَ يصفُ ذلك المجهولَ بحسبِ فهمهِ هو لهذا المجهول.
مهندُ الشاعرُ إذنْ، علينا ألا نُصدقُهُ، فهو يعي ما يفعلُ، وما يكتبُ جيداً، حيثُ فوضاهُ ظنٌ للعدم، وأذكرُ أن الاسمَ الأول لهذهِ المجموعةِ كان " فوضاي" وفوضى مُهند "أسطورةٌ لقبيلتين تلاقتا في سفحِ ِناي" ويستخدمُ هنا حرفُ الجرِ "في" بدلاً عن "على" كمثال على علمهِ المسبقِ لِمَ يريدُ من الجملِ وإلى أينَ يريدُ أن تأخذَهُ وهو الدَّارسُ المتُخصصُ للغةِ وظلالهِا وإن كانت فوضاهُ "كونٌ للعدمِ" على حدِ تعبيره.
لا شك أن ما قدمُهُ مهند في هذه المجموعةِ، يُعدُ تجربةً ناضجةً كاملةَ الدسم، وكأنَا به يشدُ وترَ الروُحِ حين يمُوسقُ الجملةَ الشعرية، دونَ أن يصيبَ هشاشةَ الصدرِ ولو بحرفٍ زائدٍ عن الحاجة.
هي تجربةُ شابٍ أصرَّ أن يَخرجَ من عباءةِ العادي والمألوفِ والمتوقع، ليقدمَ لنا وجبةً ثقيلةً من كافةِ التناقضات الممكنة، من الرغبةِ والرفض، من الجنونِ والتعقل، من الثورةِ والاستسلام، والأهمُ من الشكِ وما يُشبهُ أو يلامسُ اليقينَ ولو عن بُعد.
مجموعةُ "ولا أُريكُم ما أرى" أردها مهند "قسطاً من لهثِ الشمس التي يملكُ بعضَ اشعتِها لا ليؤكدَ أحقيتُه في انتزاعِ مكانٍ له بين شعراءِ هذه البلاد، وإنما ليُخرجَ لنا لسانَهُ ويقول: هذا أنا.. حجرٌ بلا لغةٍ يصيحُ ويصدح.
هذا هو مهند ذويب.