هناك فساد منتشر على نطاق واسع في المؤسسات المختلفة من غزة لرام الله -يعني قصدنا استحضار أغنية قديمة تقول: ومن غزة لرام الله راح نزرعها فدائيين- وهذا ما يدور الكلام عنه معظم الوقت. لكن هذا -على أهميته- يظل قليل الأهمية، لأنه فساد بالمفرق. الفساد الأهم هو الفساد في "البنية" أو الفساد الهيكلي أو الفساد بالجملة. ونريد أن نتحدث عن ذلك باختصار ودون تعقيد.
يشمل الفساد أشكالاً متعددة، ونرجو من القارئ العربي، والفلسطيني على وجه أخص، أن يفكر في الأشكال الغائبة باعتبار أن الحاضرة تشكل غالبية ساحقة على الأرجح في أي دولة عربية. إذن يشمل الفساد الرشوة والابتزاز والمحسوبية، ومحاباة الأهل والمعارف والعشيرة السياسية أو الطائفية، وإساءة استخدام النفوذ، وانفاق المال على الأتباع والموالين، والكسب غير المشروع ، والاختلاس. ويمكن له أن ييسر العمل الإجرامي مثل الاتجار بالمخدرات وغسيل الأموال والاتجار بالبشر . أخيراً يعد استخدام قوة أجهزة الدولة لأغراض أخرى غير تطبيق القانون وحماية حدود الوطن، مثل قمع المعارضين السياسيين ووحشية الشرطة فسادًا سياسيًا أيضًا. خطر ببالنا ذلك كله ونحن نشاهد "فيديو" على يوتيوب يتحدث بإسهاب عن تهريب آثار من منطقة دورا في الخليل في صفقات قدرت بمئات الملايين من الدولارات. من الواضح أن هذا الرقم مثلما يوضح الفيديو يشير إلى تورط أجهزة مختلفة وافراداً عديدين. في دولة "القانون" تثير مثل هذه الوقائع موجات كبيرة من الفضائح والتحقيقات التي تسقط الحكومة في السياق الرأاسمالي لسيادة القانون والنزاهة...الخ بالطبع عندنا تمر الأحداث بعد أيام قليلة من التندر الاجتماعي الذي يحتل الفيس بوك دوراً كبيراً فيه منذ بعض الوقت.
إذن دعونا نعرف الفساد بشكل مبسط بأنه حصول الفرد على منافع أو أموال ما بسبب وجوده في موقع أو وظيفة عمومية، دون أن يقدم عملاً نظير ذلك. ونقصد بالعمل هنا أي نشاط مدر للدخل في سياق الاقتصاد الرأسمالي المعتاد من قبيل الوظيفة أو التجارة..الخ. لكن الأمر الأخطر بمقدار كبير في السياق الفلسطيني هو الفساد المؤسسي أو الفساد البنيوي أو ما نحب تسميته بالفساد بالجملة.
هنا يواجهنا فساد ينخر في أساس وجود بعض المؤسسات السياسية أو الاجتماعية الكبرى من قبيل السلطة الفلسطينية ومنظمات "المجتمع المدني".
فالسلطة تتلقى تمويلاً لا بأس به من جهات دولية مانحة دون أن تقدم نظير ذلك أية خدمة اقتصادية "بيزنس" أو أية سلعة مادية واضحة. لذلك لا مناص من القول بأن المانحين الدوليين إنما يعطونها المال لقاء الموقف السياسي. هذا ريع سياسي، وهو فساد بامتياز: حصول على المال بفضل الموقع الذي يحتله الفرد أو المؤسسة والذي يؤهله للقيام بأمور يرضى عنها المانح الأجنبي. بالطبع يسمح ذلك لنا بالاستتاج بأن السلطة ليست في وضع يسمح لها ب "محاربة الفساد".
وهذا ينطبق على منظمات المجتمع المدني التي تتلقى التمويل الأجنبي دون استثناء: إنها لا تعمل للممول شيئاً في بلده، وإنما تعمل في مجتمعنا المحلي وفق أجندات الممول، فهي إذن تقدم موقفها ثمناً للتمويل. ومثل السلطة لا يسمح وضع "المجتمع المدني" من ناحية طريقه حصوله على المال مبدئياً بأن يحارب الفساد.
من هنا لا يمكن القول إن الرئيس الرسي فيلادمير بوتين قد كان مبالغاً عندما اعتبر الحصول على التمويل الأجنبي من قبل أية مؤسسة روسية فساداً من ناحية و"خيانة" للأمة والدولة من ناحية أخرى. لذلك قام الرجل منذ عقد من الزمن على وجه التقريب بإخراج تلك الأنشطة من دائرة النشاط القانوني المسموح. ولكن الحق يقتضينا القول إن روسيا في وضع أفضل منا بكثير. ذلك أن البلاد النامية أو "الأطراف" لا تمتلك اقتصاداً قوياً أنتاجياً يسمح للطبقة البرجوازية بانتزاع "فضل القيمة" منه. وهكذا تولد تلك الطبقة في الأطراف في معظم الأحيان عن طريق الفساد اكثر من أي طريقة أخرى. ومن ذلك الاحتكارات غير المسوغة لسلع مهمة وأساسية من قبيل الماء والكهرباء والاتصالات والوقود التي يتمكن من يضع يده عليها من تحقيق الثراء المضمون بشكل لا يختلف عمن يضع يده على ثروات النفط أو الذهب في البلاد التي تعتمد على ريع استخراج المعادن فقط لا غير وهو حال دول الخليج التي تعيش على الريع المتأتي من الثروات الطبيعية.
في سياقنا الفلسطيني يمكننا بهذا الشكل أن نتحدث عن محاربة الفساد الى الأبد، تماماً مثلما نعالج أنواع السرطان الشديدة دون أن ننجح في تحسين حالة المريض على نحو جدي أبداً. الفساد جزء أساس من وجود مؤسساتنا، ولا تستطيع أن توجد بدونه. وليس صعباً التحقق من ذلك عن طريق السؤال التالي: "هل تستطيع المؤسسة الفلانية أن تبقى على قيد الحياة وتقوم بأنشطتها الأساس بدون التمويل الأجنبي؟" إذا كان الجواب هو لا، فذلك يعني أن اساس وجودها قائم على الفساد المنطلق من حصولها على أموال الداعمين الدوليين الذي لا يأتي بداهة بدون التنازل عن الموقف السياسي أو الفكري وصولاً إلى ترويج أيديولوجيا الممول وتنفيذ مآربه السياسية التي لا نتوقع أن تكون متفقة مع مصلحة الشعب الفلسطيني أو الأمة العربية.