السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

تشرين فلسطين: البندقية، والانتباه، والغناء - بقلم: عبد الرحيم الشيخ

2018-11-25 08:07:45 AM
تشرين فلسطين: البندقية، والانتباه، والغناء - بقلم: عبد الرحيم الشيخ
خالد أكر منفذ عملية الطائرة الشراعية

 

بين انتقائية التاريخ واشتمالية الذاكرة، ما تزال فلسطين تبحث عن معانيها السياسية والثقافية منذ العام 1905، الذي شهد البدء «الرسمي» للاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وحتى اللحظة. ولا يكاد يمرُّ يوم دون أن يكون ذكرى لـ«حدث» دوِّن في التاريخ، أو قَرَّ في الذاكرة: سواء كان مؤسَّساً، أو مؤسِّساً، أو هجيناً بين المنزلتين. ولعل في تشرين الثاني ما يجعله أمثولة نموذجية لهذه الظاهرة، إذ إن تشرين فلسطين هو شهر «الأحداث» الكبرى المؤسَّسة للتاريخ العام كوعد بلفور في 2 تشرين الثاني 1917؛ وقرار تقسيم فلسطين في 29 تشرين الثاني 1947. لكنَّ ثمة العديد من الأحداث المؤسِّسة للتاريخ الفلسطيني الخاص، كاستشهاد الشيخ عز الدين القسام في 20 تشرين الثاني 1935؛ وعملية «قبية-الطائرات الشِّراعية» في 25 تشرين الثاني 1987؛ وعملية «زقاق الموت» في 15 تشرين الثاني 2002؛ واستشهاد القائد الفلسطيني ياسر عرفات في 11 تشرين الثاني 2004؛ وانتصار المقاومة الفلسطينية في غزة على جبروت القوة والاستخبارات الصهيونية في غزة في 12-13 تشرين الثاني 2018. وفيه، أحداث، عصيَّة على التصنيف، كإعلان وثيقة الاستقلال الفلسطيني (الثاني) في 15 تشرين الثاني 1988. 

فيما تجد الأحداث المؤسَّسة، التي صنعتها فاعليَّة المستعمِرين-الغالبين في المركز الأوروبي، وعلى أعينهم في امتداداته شرقاً وغرباً، طريقها إلى مدوَّنة التاريخ العالمي العام التي تحرسها مؤسسات الأسياد وقلاعهم الأكاديمية؛ لا تظفر الأحداث المؤسَّسة في التاريخ الفلسطيني الخاص إلا بسجلٍّ معانِد يقرُّ في ذاكرة المستعمَرين-المغلوبين التي لا تحرسها إلا شفاهة الثوَّار البهية التي وجدت سجلاً حافظاً لحركة التحرر الوطني الفلسطيني في كنف منظمة التحرير الفلسطينية الميثاقية حين كان خيارها الكفاح المسلَّح؛ وتتوزع أحداث التاريخ التي «احتلت» منزلةً بين المنزلتين على مؤسسات «المنزلة بين المنزلتين» في مؤسسات سلطة بين المنزلتين، لا سيادة فيها ولا ثورة.  

وإذا ما أغلفلنا، على نحو رزين، التاريخ المؤسَّس وتاريخ المنزلة بين المنزلتين، وتوقفنا، على نحو عابر، عند واحد من أحداث التاريخ المؤسِّس لتشرين فلسطين، وهو عملية قبية-الطائرات الشراعية (التي وقعت في 25 تشرين الثاني 1987 كواحدة من عمليات الجبهة الشعبية-القيادة العامة، وأسفرت عن قتل 6 جنود وضباط صهاينة وجرح 8 آخرين في معكسر «الأبطال»/ترشيحا المحتلة في شمال فلسطين على يد الثائر السوري خالد أكر)، كفعل مقاومة خالص يشكِّل علة أولى لوجود الأصلاني الثائر في وجه المستعمِر الطارئ، فلا بد من التأمل في ثلاثة عناصر تخومية للحدث، تاريخاً وذاكرةً، هي: البندقية كحدث مقاومة، والانتباه كمنهجية لرصده، والغناء كأداة لتسجيله. 

إن في عملية قبية-الطائرات الشراعية ما يستدعي تجربة الكفاح المسلَّح، إذ لم تثمر هذه التجربة، إلا لماماً، في التوحيد بين جمالية البندقية كادأة، وفاعليةً وعي البندقية كقيمة تحررية، وبالتالي في فولذة الهوية الفلسطينية خلال مقاتلتها للعدو الصهيوني، ومحاولتها الانتصار عليه وعلى حصريَّة هويته، ذلك أن «القتال»، وما ينشأ عنه من «قتل»، ليس قيمةً في ذاته، بقدر ما هو إعلاء لقيمة الحياة الحرَّة في الذات المستعمَرة حين تصرع مستعمِرَها. 

قد لا يبدو هذا التوحيد بين أداتية البندقية وجمالية فعلها الأخلاقي، مهمة مستحيلة، ولا مستحيل ما جاء في مقدمة لافتة لفيلسوف (لم تدفعه أخلاقيته الفلسفية إلى الوقوف مع فلسطين) لكتاب فرانز فانون «معذبو الأرض»، يمتدح فيها قتلَ المستعمَر للمستعمِر- ولا جمالية في القتل- بل في قيم الحياة التي تبعثها نشوة التخلص من الظالم وموضوع ظلمه، الذي هو المستعمَر نفسه. يقول: «إن المواطن من السكان الأصليين لا يشفي نفسه من العصاب الاستعماري إلا بطرد المستوطن بقوة السلاح… فعندما ينفجر غضبه بعد اكتشاف براءته ويصبح قادراً على معرفة نفسه، من حيث أنه هو الذي يخلق نفسه… إن إطلاق النار على أوروبي هو بمثابة قتل عصفورين بحجر واحد، فهو أنه يُقتَل في آن معاً رجلا ظالما والرجل الذي يخضع لظلمه».  

عطفاً على هذا السجال، وفي تنظيراته الرهيفة والتأسيسية حول «الهوية الثقافية الفلسطينية»، يلتقط المثقف الفلسطيني فيصل درَّاج هذه الثنائية ليعقِّب على ما أصاب بندقية المقاومة من التباس إثر تنازعها بين تقنية الأداء وجمالية الاستعداد الدائم لمواجهة العدو الذي استدعى البندقية واستعداها، فيقول: «على الرغم من الهالة المضيئة التي لفت البندقية الفلسطينية، فإنه من عبث العقل اختصار الكفاح المسلح إلى فعل تقني، قوامه البندقية والمختص الذي يحسن استعمالها. ذلك أن دلالة هذا الفعل تقوم في استعداد الإنسان لحمل البندقية، بعيداً عن البندقية ذاتها، وعن ضرورة الاختصاص. ومع أن الوعي الساذج يخطفه بريق البندقية، فإن الوعي النقيض يكتفي بالتوقف أمام فكرة: الاستعداد لمقاومة العدو. فالبندقية، في ذاتها، تحيل على موضوع تقني بارد وفقير الدلالة، بينما تحيل الفكرة الأخرى إلى جملة من القيم الأخلاقية والمعنوية العالية، سواء ما ارتبط منها بالتضحية بالذات في سبيل قضية جماعية، أو القتال من أجل ما هو عادل، بعيداً عن معايير الربح والخسارة المألوفة». 

يستجلي الكفاح المسلح، بين هذين الحدين، تتويجاً للقيم الأخلاقية في أكثر مراتبها ارتقاءً ومرجعاً لنسق جديد من الأخلاق، كأن الكفاح المسلح، نظرياً، إعلان عن جمالية الإنسان المتحرر، قبل أن يكون فعلاً يقصد به مفقوداً ويتجه إليه». وإذا ما تجاوزنا، اختياراً، السجال الدائر حول فعل البندقية بين «الأداتية» و«الجمالية»، فإننا ربما نكون مجبرين على خوض السجال في منهجية رصد فعل البندقية. هنا، قد يسعفنا ما تقدمنا به من صنافية لكتابة التاريخ وحفظ الذاكرة، بين العام والخاص والمنزلة بين المنزلتين، في القول إن فعل المؤرخ يغاير فعل المتذكِّر، ويغاير كلاهما فعل «المنتبه الجماعي»، ذلك أن المؤرخ يقوم بفعله العلماني (نسبة إلى علمانية التاريخ) دون «أن يصاب برعشة الحمِّى» كما سخر محمود درويش مرَّة، والمتذكِّر يقوم بفعله المقدَّس (نسبة إلى قداسة الذاكرة) دون أن يكون «واقعياً ليصدِّق تاريخ إلياذة العسكري»؛ لكنَّ صنافية «المنتبه الجماعي»، التي كنتُ قد أوردتُها قبل أكثر من عقد في وصف كتابات الراحل عزت الغزاوي، تحيل إلى مقدرة خاصة في تحدي فعلي التأريخ والتذكُّر بغير أدواتهما التقليدية، عبر الشعر، مثلاً، أو عبر الغناء. الشعر الذي حذرنا درويش ألا نكتب به التاريخ: «لا تكتب التاريخ شعراً»، ولا بالغناء الذي قد «يحفظه الساهرون وإن رحل المغني».  

 

من فضائل «المنتبه الجماعي» أنه يقوم بفعل الانتباه الفردي للأحداث الجماعية، لكنه يشكِّل من فعل الانتباه بالكتابة، شعراً كانت أو غناءً، جغرافيةً متاخمة للحدث حدَّ المساهمة في تشكيله، والتعقيب عليه، وصناعة الأمل بقابلية استنساخه. «الانتباه الجماعي» إيديولوجيا وجود خالص، يأتي بمعاييره معه: فنياً، وأخلاقياً، وسياسياً، ولا ينتظر شرعية من خارجه. هنا، تتذرر الكتابة، كصنعة ثانية للمُنتبه، إن كان شكلها السرد، بين قول «الحقيقة» وتأسيس «الحق»، بين نقد الشر بوصفه سلطة، وتعرية السلطة بوصفها شرا، وبين التأسيس لأخلاقية المقاومة بوصفها خيرا، أو توليد الخير بوصفه تأسيسا لأخلاقية المقاومة. وهنا، يتوجب على المنتبه، لا أن يختار شكل الكتابة، بل أن يختار موقفا منها، ومن الشكل، قبل أن تكون. المنتبهُ الذي لا يأبه بقداسة الذاكرة، ولا بعَلمانية التاريخ، بل يبثُّ الإشارات في حقولهما معا حين ينفرط عقد الجماعة، وتتحول الذاكرة إلى إيديولوجيا، فيما يتحول التاريخ إلى توق لتفوق سيكون، أو نحيبا على تفوق كان لجماعة صنَعَت مقدَّسَها كما تصنعُ سلال القش أو قناني النبيذ أو الأحذية.

إن صحَّ ذلك، فقد التقط عملية قبية-الطائرة الشراعية (التي لا سبيل للخوض في تأريخها هنا)، منتبهان جماعيان: فرقة الفنون الشعبية في أغنيتها الذائعة «طار اليعسوب»، والشاعر العراقي مظفر النواب في قصيدته التسجيلية-الغنائية «قل هي البندقية أنت»، والتي جاءت بأكثر من أربع نسخ مختلفة بصوت الشاعر نفسه، فضلاً عن النسخة المنشورة في «الأعمال الكاملة لمظفر النواب». ينتمي هذان الانتباهان الجماعيان إلى ما نحتفي به اليوم من صنافيات الكتابة التي تحفظ قصة الحقيقة من الخلخلة، إذ على الرغم من تحذيرات درويش الساخرة، تخطَّى مظفر النواب في قصيدته، وفرقة الفنون في أغنيتها، تحدِّي «تقرير» الحدث (جعله قاراً في ذاكرة الناس) نحو منح تدشين حالة نادرة من توحُّد أداتية البندقية بجماليتها: 

«لقد جاء في الزمن المستحيل، يمطر الجو مما غضارته والشباب، ويلتمس اللهُ مرضاتَه، ساحبا بالأماني إلى آخر الأزرقاق السماوي، إهبط عليهم فإنك قرآننا، قل هي البندقية أنت، ومالك من كفو أحد»/«طار اليعسوب يا يما ووضع اللقاحْ، فيكِ بالشراعية وحمل السلاحْ، قالوا تبقى الخلية رغم الجراحْ، والنتيجة حتمية بالإنتصارْ. طار اليعسوب يا يما سلاحه باليدْ، يا جماهيرنا الشعبية المد المدْ، بالوحدة الوطنية بنوضع الحدْ، للآلة الصهيونية والاستعمارْ». 

 

قد يحملنا التفاؤل على الركون إلى الشعر والغناء، لا كبدائل للتاريخ بل كنوافٍ له، كمرجعيات جاوزت حدَّ الشفاهة في تمكين الذاكرة أن تقرَّ حيثما ينبغي لها في أعماق اللاوعي الجمعي للأصلانين الذين أنهكتهم هزائم قياداتهم، لكنهم لم يكفوا عن ممارسة الأمل، والتبشير بحتمية مآلاته المنتصرة، دون أن تؤرقهم تحرُّزات «السؤال الهومري» الذي كتبه درويش شعراً! 

هنا، وبما يسمح به المقام، لا بد من الإشارة إلى التنظيرات المؤسسة للمؤرخة الفلسطينية رنا بركات في أوَّلانية الأصلاني في التاريخ، وإن طرده المستعمِرون الاستيطانيون من أولانيَّة التأريخ، ذلك أنها، ودون أن تلجأ إلى الحقل الدلالي للغناء بوصفه «اكتفاءً وإقامة» في كتاباتها، تؤكد أن الأصلاني، وإن لم يتَح له سرد تاريخه، فإنه يحكيه حين يغنِّيه، فيصير الغناء قولاً من تحته عمل في تاريخ لم يكتب بعد. 

خلاصة القول إن تشرين فلسطين، كما تجسِّده أدوات حفظ ذاكرة-التاريخ الحدثي لعملية قبية-الطائرات الشراعية، على سبيل التمثيل لا الحصر، يدشِّن أمثولةً نموذجية لـ«قصة الحقيقة» الفلسطينية، وليس القصة الحقيقية وحسب للذاكرة الفلسطينية التي لم تصر تاريخاً بعد. وباستدعاء عابر لواحدة من درر الفلسفة القاريَّة بالغة الإيجاز والبلاغة، للفيلسوف الفرنسي جان-لوك نانسي، الذي لا يزال مجهولاً في الثقافة العربية وليس الفلسطينية وحسب، بعنوان: «بين القصة والحقيقة» كُتبت في العام 2000… يمكن فهم بعض «قواعد الاشتباك» بين الحدث وذاكرته وتاريخه، كما يمكن فهم العلاقة بين هذه الأقانيم الثلاثة وطرق «تخليدها»: مقاومة، وانتباهاً، وغناءً. 

يعقِّب نانسي على سيرة الحدث في حدوثه، وسيرورته التي تكون بعد الحدوث، أي بنيته الأنطولوجية كسيرورة حكائية-سياسية، مؤكداً على أنه بعد انسحاب الوجود تبقى قصته إذ بعد احتجاب الوجود العياني لأية ذات، سواء كانت لله، أو جهاز الجوَّال الذي ضاع، مثلاً، هو ما يمكن وسمه بـ «القصة» أو «الحكاية» أو «التاريخ» كـ«صورة اجتماعية دنيا»، بتعبير حسين البرغوثي، للذات المنسحبة أو المحتجبة أنطولوجياً التي تشكِّل «الصورة الاجتماعية العليا». في هذه اللحظة، لا يبقى إلا «الحكي» أو «القص» لإنقاذ الحدث بالذاكرة، وإنقاذ الذاكرة بالمخيلة، وإنقاذ المخيلة بفعل الكتابة الذي يتخذ أشكالاً متعددة: الغناء، والشعر، والرواية، والأرشيف، والرسم، والحلم حين يتم تدوينه. هنا، تغدو الكتابة حجر الأساس في تدشين «قصة الحقيقة» وقد غابت «القصة الحقيقية» أو كادت بغياب حضوره فاعلها الأنطولوجي. وهنا، كذلك، لا يتبقى مما انسحب إلا أربعة أشياء: القول، والفضاء، والزمن، والعدم. تنتهي إلماعة نانسي هذه، دون إن يذكر تشرين، ولا فلسطين، ولا تشرين فلسطين، لكنَّ مقولته تؤسس لإمكانيات لاحدَّ لها لإنقاذ الغياب بقصته الحاضرة: بندقيَّةً، وانتباهاً، وغناءً. 

​*عبد الرحيم الشيخشاعر وناقد فلسطيني ولد في القدس لعائلة لاجئة من الرملة. يعمل أستاذًا للفلسفة والدراسات الثقافيّة والعربيّة في جامعة بيرزيت. يركز عمله الفكري على سياسات الهوية والقومية وتفسير الروابط العلائقية للسياسات، يعمل في الترجمة وفي نقده الفني يركز على التعبيرات البصريّة للهويّة الفلسطينيّة.