الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الاستخبارات الإسرائيلية واختراق "العقل الذكي" وحديث الأطفال

2018-11-26 07:16:09 AM
الاستخبارات الإسرائيلية واختراق
الاستخبارات الإسرائيلية والسيناريوهات المحتملة

 

الحدث ــ محمد بدر

أدركت "إسرائيل" بعد حرب أكتوبر 1973 أن المنطقة لا يمكن هندستها استراتيجيا، وأنها –إسرائيل- ستبقى في محيط غير مستقر يحكمه عنصر المفاجأة. وقد جاءت (الحرب) لتضيف للعقيدة الاستخبارتية الإسرائيلية مرتكزا مهما لا ينتمي لبيئة العمل الاستخباراتي التقليدية، وهو "عدم مركزية حضور المعطى" والبحث خارج الأنساق التقليدية عن المفاجأة.

والمفاجآت الاستراتيجية من المنظور الإسرائيلي، قد تسبب خسائر استراتيجية لا يمكن تعويضها ولا يمكن تحمل مسؤوليتها، ومن هذا المنطلق تجاوز البحث الاستخباراتي الإسرائيلي عقدة البحث في عتاد العدو وقوته وقدراته وقراراته إلى البحث في "العقل الذكي" لهذا العدو، وفي "المتغيرات" التي قد يمكن وصفها بالميتافيزيقية ولكنها مرتبطة بالواقع وتتشكل في الساحة اللامرئية وتشكل واجهته المرئية بشكل مفاجئ وسريع.

وتلك المعلومات التي تستقرئها "إسرائيل" في "العقل الذكي" للعدو، لا يتم وضعها في صورة المُستقبل فقط، بل يزيد من ترسانتها المعلوماتية المعطياتية، فهي بذلك عملية استخباراتية تحقق هدفين.

بعد هذا التاريخ (1973)، وجدت "إسرائيل" نفسها مضطرة للتحرك بشكل مستمر بين الأسرار والألغاز والكلمات المفتاحية، ومضطرة للتحليل وبناء السيناريوهات والنفاذ لوعي الجماهير وحتى لألعاب الأطفال والخيال، في محاولة منها لفهم البيئة التي قد تنتج مفاجأة كبيرة استراتيجية كقرار الحرب أو المواجهة.

وإلى جانب اهتمام "إسرائيل" بفهم البيئة التي قد تنتج القرار المفاجئ "المستقل"، فإنها تولي كذلك اهتماما بدراسة ارتدادات أفعالها في فلسطين والمنطقة وما قد تنتجه من أفعال مفاجئة.

بالأمس، نشر قائد جيش الاحتلال على جبهة لبنان روعي ليفي مقالا قال فيه إن "إسرائيل" أخطأت في اغتيال عباس الموسوي، لأن اغتياله جاء بـالسيد حسن نصرالله، هذا التصريح يؤكد على ضرورة فهم نتيجة الفعل الأمني والعسكري من خلال فهم "العقل الذكي" للعدو، هل كانت تعلم "إسرائيل" أن نصرالله أخطر من الموسوي؟ هل رسمت سيناريو لـ"عقل نصرالله الذكي"؟.  كان الوصول للموسوي نجاحا استخباراتيا ولكن عدم الوصول لـ"عقل نصرالله" كان فشلا استخبارتيا كبيرا كلّف "إسرائيل" الكثير، بحسب اعترافها.

من جانبه، يقول "إيتان برون"، أحد أبرز الباحثين الإسرائيليين في مجال الاستخبارات إن "البحث عن الصواريخ البالستية والعتاد العسكري وطرق إخفاء العدو لترسانته العسكرية وتطويرها هو أمر مهم جدا، ولكنني أرى أن البحث عن "جيل الأعداء" و"بيئة الجيل" وشعارات الجيل وكلماته وأحلامهم أيضا مهم ومهم جدا، إنك تبحث عن القلق المستقبلي وشكل التحدي القادم وطبيعة العقل الذي ستواجهه.. إننا نعيش في شرق أوسط نعاني فيه من عدم اليقين بشأن المستقبل وبما يحمل".

حديث "إيتان برون" جاء بعد 5 سنوات من إنطلاق الهزة الكبيرة التي ضربت المنطقة العربية وأُطلق عليها فيما بعد "الربيع العربي"، ويمكن اعتبار حديث الباحث الاستخباراتي إعلانا عن الفشل الإسرائيلي في "تفكيك البيئة" وصولا لسيناريوهات الفعل (الربيع العربي)، حيث أن الإسرائيليين لم يتوقعوا وقوع هزة كبيرة كهذه، كما أنهم ومع بدء ما يسمى بالثورة السورية توقعوا سقوط النظام السوري خلال أشهر معتقدين بإمكانية حدوث انشقاقات كبيرة في الجيش السوري، لكن قراءة إمكانيات الجيش السوري والأحداث لم يسعف الاستخبارات الإسرائيلية في رسم السيناريو المناسب والأقرب للنهاية، والسبب هو أن الاستخبارات الإسرائيلية لا تملك معلومات حقيقية عن "عقل الجندي السوري" ولا عن "البيئة اللامرئية التي يتصرف على أساسها هذا  الجندي". هذا الفشل الاستخبارتي الإسرائيلي المركب استدعى جدلا ونقاشا كبيرين في الأوساط الاستخباراتية الإسرائيلية والأكاديمية.

يتركز البحث الاستخباراتي في السنوات الأخيرة على تطوير أدوات لفهم السلوك السياسي للجمهور ولإجراء تغييرات جوهرية في البحث ودمج التحليل الاقتصادي للجمهور بالفهم الاستخباراتي، لتتجاوز "إسرائيل" بذلك أنماط بحثها التقليدي في محاولات فهم سلوك القيادة على أساس أنها صاحبة التأثير الأكبر، وهو ما ثبت فشله في هبة القدس عام 2015، ففي حين ركزت "إسرائيل" على دراسة النخبة السياسية والجماعات السياسية، جاءت العمليات الفردية كتعبير قوي عن هذا الفشل.

لقد كانت المفاجآت التي عرضتها المنطقة بالنسبة لـ"إسرائيل" كافية لإغلاق المشهد خلف المشهد وأكدت لها ضرورة إعادة النظر في منهجية البحث ودراسة وتطوير أدوات البحث للحد من مفاجآت.

تدرك "إسرائيل" أن البيئة المحيطة قد تغيرت في السنوات الأخيرة، وأن الهويات الوطنية في طريقها للتفكك لصالح عناصر هويات أخرى (الطائفة والقبيلة)، وأن التهديد الأساسي على كيانها لم يعد من الجيوش التقليدية، وأن المجموعات المسلحة المنظمة أصبحت ذات قوة وقدرة عسكرية كبيرة تستطيع من خلالها تهديد الجبهة الداخلية لـ"إسرائيل" في نطاقات أكبر من تهديد الجيوش الرسمية. إن قرارات الجماعات أقل تكلفة وسرعة من قرارات الجيوش، وعلى هذا الأساس تعتقد "إسرائيل" بأن تدهورا أمنيا عابر قد يؤدي لإحداث مواجهة واسعة النطاق، تؤدي إلى إلحاق أضرار كبيرة بالجبهة الداخلية الإسرائيلية. إن الواقع الجديد الذي عنوانه الرئيس "الجماعات القوية" كحماس وحزب الله والجهاد الإسلامي يضع "إسرائيل" أمام جهد استخباراتي مضاعف في محاولة فهم "العقل الذكي" للعدو.

إن إنتاج المعرفة الاستخبارتية هي بالأساس عملية بناء "واقع جديد" قادم متوقع، لأن الفرق كبير بين الحقيقة الاستخباراتية المبنية على معلومة استخباراتية وبين إنتاج المعرفة الاستخباراتية. الحقيقة الاستخباراتية تعطي تصورا لما هو قائم (الواقع)، وإنتاج المعرفة الاستخبارتية يعطي تصورا لما قد يقوم أو يجب أن يقوم (فهم أبعاد الواقع). ولا يمكن التصور أن إنتاج المعرفة الاستخباراتية تستند لمنهجية هرطقية، بل هي عملية منطقية، حتى لو كانت تبحث في اللاوعي والخيال أحيانا، ومع ذلك فهي لا تصل أيضا لحد أنها منهجية ديكارتية، لأن "المعرفة الاستخبارية المنتجة" ليست "الحقيقة المطلقة"، ستكون هناك دائما فجوة، لكنها محاولة كبيرة للوصول لأقرب وصف دقيق للواقع فيما يتعلق بالعدو والبيئة، وإنتاج المعرفة الاستخبارتية هي بالضرورة عملية فهم للقضايا المتعلقة بالعدو، والبيئة، وخاصة العلاقة بين العدو والبيئة.

إن ما تقدّم يجعلنا أكثر قدرة على تفكيك الخطاب الأمني الإسرائيلي وتصريحات قادة الأمن الإسرائيليين، فحين يتحدث مسؤول الشاباك عن اعتقال مئات المجموعات التابعة لحماس وضبط أسلحة، فإنه يتحدث عن "حقيقة استخباراتية"، ولكنه حين يتحدث في نفس التصريح عن الهدوء في الضفة الغربية واصفا إياه بـ"الهدوء الخادع" فإنه يتحدث من منطق "المعرفة الاستخبارتية المنتجة"، وعندما يطلب ويوافق على تمرير أموال الموظفين لغزة فإنه سلوكه مبني على أساس "المعرفة المنتجة". وعلى ضوء ما تقدّم فإنه لا يجب أن نتفاجئ أن وزير جيش الاحتلال السابق أفيجدور ليبرمان يتحدث في أكثر من مناسبة عن تمرير الأذرع الأمنية الإسرائيلية تقارير يومية له عن منشورات الغزيين، "إن "إسرائيل" "لا تكتفي بترجمة وقراءة وفهم المحادثات التي يجريها العسكريون والسياسيون ، إن هناك ضرورة لفهم ما يتحدث به الأطفال"، كما يقول ضابط الاستخبارات الإسرائيلي المتقاعد إلياهو كوهين.