السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

بين التّعويل (على المصالح) والعويل (في الخطابات): قراءة في نتائج انتخابات السّلطات العربيّة داخل الخطّ الأخضر

المحامي مرسي أبو مخّ [1]

2018-11-29 05:25:03 AM
بين التّعويل (على المصالح) والعويل (في الخطابات): قراءة في نتائج انتخابات السّلطات العربيّة داخل الخطّ الأخضر
صورة لبلدة باقة الغربية من فوق أكاديمية القاسمي والزاوية الغربيه ومدرسة إبن خلدون الإبتدائيه

 

لطالما كان لانتخابات السّلطات المحليّة في القرى والمدن العربيّة داخلَ الخطّ الأخضر، بالغ الأثر في قراءة وتحليل المشهد السّياسيّ الاجتماعيّ للأقليّة الفلسطينيّة القاطنة داخل حدود الخطّ الأخضر، ويعودُ ذلك بالأساس إلى أنّ اللعبةَ السّياسيّة الأقوى والأكثر تأثيرًا لدى عرب الدّاخل، هي انتخابات السّلطات العربيّة المحليّة، أكثر بكثير من الانتخابات البرلمانيّة للكنيست الإسرائيليّ، وذلك لأسباب تاريخيّة تعودُ جذورها إلى اللعبة السّياسيّة، ضيّقة المعالم، المُتاحة لهذه الأقليّة التي ظلّت في موطنها الأصليّ، وتحوّلت عامَ النّكبةِ، بين عشيّة وضحاها إلى لاعب سياسيّ هامشيّ، لا قوّة ولا تأثيرَ لها على مُجْمَل العمليّة السّياسيّة الاجتماعيّة في الدّولة الإسرائيليّة الحديثة التي أُقِيمَت على أنقاض القرى والمدن الفلسطينيّة التي هُدِّمَت وهُجِّرَت عام 1948.

من هنا تأتي أهميّة فهم وتفهّم الواقع السوسيو-اقتصاديّ لفلسطينيّي الدّاخل، وعليه تنبني القراءات السّليمة لنهجه، سيرورته وصيرورته، إذ لا بدّ من تذويت الرّؤيا القاضية بأنّ هذا المجتمع يراوحُ داخِلَ سياقات مبتورة، إذ لا هي مندمجة في السّياق الإسرائيليّ، كما تقتضيه أُسُس المساواة المجتمعيّة، ولا إلى نظيره/شقّه الثّاني، فلسطينيًّا، إذ أنّ هذه الأقليّة، لا تلعبُ دورًا رئيسيًّا في بلورة الوضع الاجتماعيّ والسّياسيّ للفلسطينيّين القاطنين في الضّفّة الغربيّة وفي قطاع غزّة. الأقليّة الفلسطينيّة داخل الحيّز الإسرائيليّ، لا تزالُ تستعملُ الأدوات السّياسيّة في سياق السّلطات المحليّة، من أجل تسيير مصالح بالأساس، مَعَ الافتقادِ إلى وجودِ رؤيا شموليّة واضحة المنشأ والمُراد، في ظلّ غياب برنامج وخطط عمل مستقبليّة فعليّة.

وبرغم تَبِعَات يوم الأرض الذي انْدَلَعت أحداثه في مدينة سخنين، عامَ 1976 من القرن الماضي، التي أثَّرَت على التّبعيّة العائليّة المطلقة التي حرَّكَت الأحداث السّياسيّة والانتخابات المحليّة، إلّا أنّ بوصَلَة العائليّة، الحمائليّة ودوائر الانتماءات الصّغيرة، لا تزالُ تحكُمُ إلى حدّ بعيد، قواعِدَ اللعبة السّياسيّة الاجتماعيّة، ولا تزالُ القول الفصل في اختيار القيادات المحليّة للقرى والمدن العربيّة داخلَ الخطّ الأخضر. وشهدت الانتخابات الأخيرة، إعادةً واسترجاعًا لمنواليّة سلطة العائلة ونفوذ الحمولة والحمائليّة، وإن اختَلَفَت أشكالها، إذ أنَّ الأحزاب السّياسيّة العربيّة، تعايَشَت وتَأَقْلَمَت مَعَ ظاهرة الحمائليّة، وحاولت استيعابها واحتوائها، فعَوَّلَت على دعم مرشّحي حمائل كبيرة، لتواصل العائليّة بذلك دورها البارز والمؤثّر في انتخابات السّلطات المحليّة، ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ خطابَ العائليّة شكَّلَ، طيلَةَ الوقت، منافسًا للخطاب الوطنيّ القوميّ، وإن التقى الجانبان في تقاطعات وتداخلات، إلّا أنّ العائليّة والحمائليّة، تظلّ العنوان الأبرَزَ والأقوى والأكثر تأثيرًا، وخصوصًا في ظلّ انحسار الخطاب القوميّ والوطنيّ ومعاناته من انكسارات ومراوحات تركتهُ خطابًا غيرَ ذي تأثيرٍ كبيرٍ، وهو ما يدعونا إلى فهم التفاف القوى الوطنيّة ذات الأساس الأيديولوجيّ على شخصيّات مرشّحة من قِبَل العائلة الكبيرة.

وقد بدا بارزًا في هذه الانتخابات أنّ الأيديولوجيّات الحزبيّة، على اختلاف انتماءاتها، قد تراجَعَت إلى حدٍّ بعيد، حتّى أنّه يمكننا القول إنّ هذه الأيديولوجيّات كادَت تختفي عن السّاحَة السّياسيّة في الانتخابات الأخيرة، كما ويمكننا الانتباه بشكل ملفتٍ إلى أنّ القائمة العربيّة المشتركة، المُمَثَّلَة في البرلمان الإسرائيليّ، لم تنجح في إنشاء وخلق تحالفات سياسيّة فعّالة وذات أثرٍ على أرض الواقع، ونتيجَةَ ذلك برَزَ قياديّون مرشّحون مستقلّون، كان لهم الوزن والثِّقَلَ الكبيرين، ناهيك عن بروز قيادات مرشّحة مدعومة ومنتسبة (جليًّا أو غير جليّ) إلى الأحزاب الصّهيونيّة المختلفة، ابتداءً بحزب العمل وانتهاءً بحزب الليكود الحاكم. وهذه العمليّة التي همَّشَت الأيديولجيّات وعزَّزَت من الانتماءات والتّحالفات ذات المنفعة والمصلحة السّياسيّة-الاجتماعيّة، ستكون، برأيي، ذات تأثير كبير على الانتخابات للسلطات العربيّة في الدّورات الانتخابيّة القادمة، إذ ستختلفُ موازينُ القوى، فستظهرُ قوًى جديدةً وستندثرُ أُخرى، كانت حتّى الأمس القريب، ذات تأثير كبير. ما هو مهمّ في هذا السّياق، أنّ الأوراق في الانتخابات للسلطات المحليّة في الدّورة المقبلة، ستأخذُ منحًى يختلفُ عن الدّورات السّابقة في الانتخابات، بسبب تغيّر المُنْطَلَقات والمحرّكات للمصالح التي تحرّك هذه الانتخابات وتقفُ من ورائها.

كما ذكرتُ، فإنّ الحمائليّة لا تزالُ تَحْتَلُّ الصَّداَرَةَ في التّحكّم بالأصوات النّاخبة، وإن اخْتَلَفت موازينها، إذ أنَّه في أكثرَ من بلدٍ، قامَ أكثرُ من مرشَّحٍ من ذات العائلةِ بالتّنافسِ على ذات الكرسيّ، وهو ما من شأنِهِ أن يُضْعِفَ من قوّة العائلة، لكنه في الوقت ذاته، يُبْقِي السّلطَةَ والقوّة في يد العائلة ذاتها، ويُبْقِي عليها على أساس أنّها القوّة الأكبر والأكثر تأثيرًا، ففي مدينة طمرة على سبيل المثال، لا الحصر، شهدنا مرشَّحَيْنِ من ذات العائلة (أبو رومي) تنافَسَا على نفس المنصب، واستقطبا أصواتًا من ذات العائلة.

ومن اللافتِ للانتباه والوقوف على تحليله، تعاظم قوّة وتأثير شريحتيّ النّساء والشّباب، اللذين تعزَّزَتَا كقطاعين حاولا أن يكونا مؤثّرين مستقلّين، في سعيٍ لتحدّي السّلطة العائليّة المجتمعيّة الذّكوريّة، فقد تمّ تحدّي العائلة وتحدّي الذّكوريّة في هكذا سياق، لنرى الأمر بارزًا في عدد القوائم التي اشتملت على نساء ترشّحن (أكثر من 25 قائمة في مختلف البلدات العربيّة)، وما هو جديرٌ بالانتباه كون 18 امرأةً ممَّن ترشَّحْنَ، قد فُزْنَ بتمثيلٍ لهنّ في السّلطات العربيّة المحليّة، وهو ما زادَ من تعزيز دور المرأة العربيّة في المشهد السّياسيّ المحليّ، ولا بدّ من التّنويه، إلى أنّه وبرغم النّسبَةِ الصّغيرة والضّئيلة للتمثيل النّسائيّ، إلّا أنّ هذه النّتائج تعني اختراقًا للمشهد الذّكوريّ وللهيمنة الشّوفينيّة على تقلّد المناصب الكُبْرَى وتراتبيّتها.

ولتوضيح ما قد يثيرُ بلبلةً في سياق قراءة الانتخابات الأخيرة، جديرٌ أن نأتي بمثال مدينة النّاصرة، التي تُعْتَبَرُ "عاصمَةَ" فلسطينيّي الدّاخل، يتوجّب أن نُدركَ أنّ الأحزابَ السّياسيّة لم تتراجَع إلى حدّ اختَفتْ فيه، وإنّما قد ألَّفت تحالفات داعمة لمرشّحين مختلفين، فكما أنّ الجبهَةَ والتّجمّع قد سانَدَا المرشّح وليد عفيفي ضدّ المرشّح علي سلّام، وهو رهانٌ قد خَسِرَ مَعَ ظهور النّتائج واكتساح سلّام للانتخابات من جولتها الأُولى؛ إلّا أنّ ذات الجبهة والتّجمّع قد كَسِبَا الجولة الانتخابيّة في بلدان أخرة مثل الطّيرة، عرّابة، جلجولية وغيرها، وهو ما يؤكّد "اختباء" الأحزاب الأيديولوجيّة الكبيرة، وراء الخطاب الحمائليّ، بصياغات مختلفة، بحيث تسلّلت لدعم مرشّحي العائلات الكبيرة، ودعمتها عَبْرَ تحالفات متعدّدة الجوانب، وهو ما قلّل من قيمة الحزب وعزَّزَ (أو أبقى على الأقلّ) مكانةَ العائلة، التي لا زالت تدحرُ أيّ مقوّم منافسٍ لها.

النّاخبُ، كوحدةٍ مستقلّةٍ، قد قال قوله في هذه الانتخابات، بينما كانت بوصلته "المصلحة والمنفعة"، فلا يهمّه من الذي سيُسَيِّرُ مصالحه، أكانَ حزبيًّا أم مستقلًّا. لا تزالُ المصلحة العامّة والصّالح العامّ والمنفعة لأجل عُموم الجماهير، مصطلحات بعيدةٌ عن قاموس انتخاباتنا السّياسيّة المحليّة، ليظلّ "الاقتصاد والسّلطة " هو المحرّك وهو الدّافع وهو البوصلة، وفي ذلك الكثير من الخطر، لما يحتويه من خطرٍ على وحدة ومستقبل الأقليّة الفلسطينيّة داخل البلاد.

وقد تنامى منسوب العنف داخل القرى والمدن العربيّة التي انعقدت فيها انتخابات، وهو مؤشّر سلبيّ ينذِرُ بازدياد وارتفاع المشهد العنيف، الذي يهشّم من نسيج مجتمعنا، المتواجد أصلًا في خطر، فقد شهدنا في الكثير من البلدات العربيّة، عراكات واستخدام أسلحة وتهجّمات جسديّة غير مسبوقة، الأمر الذي قد يشيرُ إلى انزلاقٍ خطيرٍ نحوَ دمج العنف بالسّياسة، بشكل عضويّ. لا بدّ من التّركيز، على المستويين الجماهيريّ والقياديّ، على أنّ نبذ خطاب العنف وثقافته الهدّامة هو واجبٌ أخلاقيّ، مجتمعيّ، وطنيّ وقوميّ، حفاظًا على نسيج مجتمعيّ سليم، مهما كانت نتائج الانتخابات وهويّة الفائزين بها.

يُطْرَحُ سؤال هامّ آخر في قراءة الانتخابات للحكم المحليّ: هل تمّت مخاطبة عقل النّاخب العربيّ في البلاد بشكل لا يستخفّ بقدراته الذّهنيّة وقراءته للواقع؟ لا يمكن الجزمُ في إجابتنا على هذا السّؤال، إلّا أنّ ما يمكننا أن نجزم به هو كون الخطاب الموجَّه إلى النّاخب، باتَ أكثر عقلانيّة وأقلّ شعاراتيّةً وكليشيهات، ولربّما كان تراجع دور الأحزاب السّياسيّة في انتخابات السّلطة المحليّة، مصحوبًا بهذا الأثر في التّخفيف من حدّة الشّعارات ومن حدّة نبرتها الخطابيّة التي لطالما اتّسمت بها الأحزابُ السّياسيّة حينَ خوضها انتخابات الحكم المحليّ.

النّاخبُ العربيّ، كما اتَّضَحَ من الانتخابات الأخيرة، داخلَ الخطّ الأخضر، باتَ أكثرُ ذكاءً، حنكةً وفهمًا لواقعه السّياسيّ المركّب، فلم يعد بإمكانه "شراء" الشّعارات الرّنّانة، كما في السّابق، في الوقت الذي يبحثُ فيه، من خلال التّغيّرات الدّيناميكيّة المتواصلة، عن خطابٍ عقلانيّ يدمجُ ما بين الأيديولوجيا وبين الواقع السّياسيّ المركبّ. وعيُ النّاخب العربيّ صارَ تحدِّيًا للأحزاب السّياسيّة العربيّة المتنافسة على كرسيّ الرئاسة في قرانا ومددنا العربيّة، وصار يشكّل اختبارًا للأحزاب السّياسيّة وللمرشّحين السّياسيّين المستقلّين، الذين صاروا مُطالَبينَ بإيجاد حلولٍ وبتقديم سيناريوهات حلّ لأزمات مركبّة.

بينَ مشهدٍ يتألّف من عائليّة، أحزاب أيديولوجيّة مترهّلة المكانة، عنفٍ مُسْتَشْرٍ واعتراك واقتتال على مناصب القوّة والنّفوذ، لا تزالُ القوى السّياسيّة داخِلَ الخطّ الأخضر، تحاولُ خلقَ معادَلَةٍ تكونُ هي المستفيدة الأُولى منها، بينما المواطنُ العربيّ الفلسطينيّ في الدّاخل، لا يزالُ يبحثُ عن عنوانٍ وعن قيادةٍ يمكنُ له أن يعتمدَ عليها في حلّ مشاكله وهمومه اليوميّة الكثيرة. المواطنُ العربيّ داخل الخطّ الأخضر لا يزالُ يتشبّث بعائلته، إيمانًا منه أنّها الإطارُ الأكثر ملاءَمَةً له ولمصالحه الشّخصيّة.

كانت الانتخابات السّياسيّة الأخيرة في السّلطات العربيّة المحليّة، ذات طابعٍ ديناميكيّ حَمَلَ في طيّاته الكثير من التّغييرات ومن التّحوّلات الجيو-سياسيّة، وهو ما يُعْتَبَرُ تمهيدًا للانتخابات المحليّة المستقبليّة، في الدّورات المقبلة، التي بات من المؤكّد أنّها لن تستعيدَ ما قدَّمَتْهُ سابقًا، لأنّ التّغيير في موازين القوى قد بدَأ، وهو ما يثير بحدّ ذاته تحدّيًا كبيرًا أمام السّياسيّين وأمام خطابهم السّياسيّ والاجتماعيّ الذي يسوّقونه لمُجمل جماهيرهم.

[1] رئيس بلديّة باقة الغربيّة داخل الخطّ الأخضر، وباحثٌ في حقل الصّراعات العرقيّة ورأس المال الاجتماعيّ. صدر له عام 2016 "التّيّارات الفكريّة السّياسيّة للفلسطينيّين في إسرائيل – دراسة في التّاريخ والمجتمع" (دار "أُصُول" للنشر والمركز اليهودي العربيّ في جامعة حيفا). أبو مخّ هو طالب للقب الثّالث في جامعة حيفا في قسم العلوم السّياسيّة.