السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

إبادة الموروث المعماري في مدينة رام الله: بين العصّرنة والاستثمار - بقلم: د. يزيد الرفاعي

2018-11-29 06:00:44 AM
إبادة الموروث المعماري في مدينة رام الله: بين العصّرنة والاستثمار - بقلم: د. يزيد الرفاعي
صورة لسحر قواسمي

 

تعكس عملية التعدي على الموروث المعماري والعمراني في واقعنا المحلي الفلسطيني صورة من صور الهرولة تجاه صناعة الشكل الجديد لفلسطين المستقبلية، والتي وبطريقة لا وعيويّة تركّز على طمس التناقضات الهائلة في اُسلوب حياة الفلسطينيين المعاصر، والذي يتسم بحالة من التشويه الشيزوفريني. يرافق هذه الحالة، غياب تام للرؤى الاستراتيجية، ونقص هائل في الوعي المعرفي الكافي لإدارة القضايا المتعلقة بقطاعات الحياة المختلفة، غياب ناتج عن ضعف معرفي وتقني وسيادة عقلية البيروقراطية للمؤسسات والقطاعات والأجسام التي من المفترض ان تلعب دوراً بارزاً في رفع الوعي الجمعي والتأثير المباشر.

الهجوم المُركز المتكرر على عناصر الموروث المعماري

في هذا السياق وبما أن العمارة والعمران هما أساس تكوين كل ما هو مرئي، وأساس الفضاء الذي نعيش فيه، وهما مشكّلان أساسيان لنمو رأس المال، يتعرض المنتج المعماري المحلي إلى هجوم ممنهج متمثل في المشاريع المسطحة بصريا والساذجة تكوينياً والتي تغزو فضاء مدننا وتشوه واقعها الحضري، يصاحبها عملية تعد على كل ما هو عام من فضاء ومبنى وخدمات. تظهر آخر فصول ذلك في الهجوم المركز والشبه متكرر على  عناصر الموروث المعماري، من هدم وإزالة وطمس تحت مجموعة من المبررات الواهية، والتي تعكس جوا من الطمع الأعمى وسطحية معرفية ومهارية واضحة.

ولا يرمي ذلك فقط إلى السيطرة على الحيّز العام، وتشويه الصورة الجمالية والشكلية، وتقسيم المدينة بالتراضي بين مجموعة من المستثمرين، والذي يرافقه تغييب دور المؤسسة الرسمية كحام لمفهوم الحق المديني، وتواطؤ معماريي سوبرماركتات الجملة ممن ينظر لمهنة المعمار كتجارة، ولكن يؤدي ذلك أيضا إلى المساهمة في خلق حيّز صوري جديد، يغيّب الواقع من ناحية، ويعمل على نقل وتركيز الوعي الجمعي من الواقع المعاش الى حالة الوهم، عن طريق استخدام العمارة والعمران كمخدر، يعمل على تقبل حالة الوهم كحقيقة دون النظر إلى القضايا الأعمق، والتي تمثل في حالتنا العيش في رفاه ضمن سياق استعماري قهري.

إن الإنتاج المعاصر لحيز مدننا وصورة العمارة فيها، ما هي إلا تشكيلات سطحية خالية من المضمون، تركز على خلق كم هائل من التدفق الصوري الذي يعمل على تخدير الإدراك الجمعي، بدل تقديم حلول حقيقية تعكس الحاجة من العمارة والعمران، العمارة المنطلقة من المضمون وليس الشكل، يؤدي هذا التسطيح لإنتاج بيئة مثيرة للعين، تعزز رغبة الفرد في الاندفاع المستمر الى استهلاكها. تصبح العمارة والمدينة عبارة عن وجبة همبرغر يرغب المتلقي دائما في إلتهامها، دون النظر إلى الهدف الأعمق من وجود العمارة بتعريفها الأصلي والذي يركز على تقديم حلول للمشاكل والحاجات الانسانية.

إن لمثل هذا التحول خطورة إذا ما تم النظر له في سياق مفهوم الهوية الجمعية، حيث يؤدي ذلك إلى تغييب وعيويّ، وتفكك جمعي، وسيادة هوية الاستهلاك على حساب الهوية الأصلانية المحلية. يتراءى ذلك وبشكل جلي في تركيز الكيان المحتل على احتلال المكونات المعمارية والعمرانية الفلسطينية الأصلانية، وأسرلتها بشكل ممنهج، كما ويتعدى الأمر ذلك ويصل إلى درجة تداوله لأحجار البيوت التي يدمرها الفلسطينيون (بجهل مطلق)، وإعادة استخدامها، حيث يعكس هذا الأمر وعي وإدراك الكيان المغتصب لأهمية هذه المكونات في معركة السيطرة، والتي هي معركة حيّز فراغي، وهوية، ومجتمع، والتي تمثل العمارة والعمران إحدى أركانها الأساسية.

معمار مدينة رام الله في الفترتين البريطانية والأردنية

أود المرور سريعا على قضية هدم المنازل والبنايات التراثية في مدينة رام الله ومعالم المدينة ذات القيمة المعمارية العالية، والمشيدة في الفترتين البريطانية والأردنية، وبعض ممن شُيد في فترة السبعينات والثمانينيات من القرن الماضي، والتي تمثل عناصر معمارية غاية في الأهمية، ومرتفعة القيمة، وهي اساس لهوية رام الله المدينة والتي بدأت بالتشكل مع بدايات القرن العشرين.

إن قيمة هذه المباني تكمن في طبيعة النموذج المعماري الذي تقدمه، والذي من ناحيته الاجتماعية يعبر عن مرحلة تحول رام الله البلدة إلى مدينة، ومن ناحيته النمطية يمثل هذا النموذج نمط العمارة التي تعكس عملية تحديث العمارة المحلية في فلسطين، والتي قدمت مفاهيم مرتبطة بتطور العمارة النيوكلاسيكية الوافدة من قبل المستعمر ومزجها بعناصر ومكونات معمارية محلية أصلانيّة.

كما وتمثل المنتجات المعمارية في فترة الخمسينيات والستينيات تطور عمارة الحداثة في فلسطين ضمن رؤيتها المحلية المتعلقة بطبيعة المواد المستخدمة والتكوينات الحيزية المحلية الخاصة والمناطقية. وتكثر هذه النماذج في مناطق القدس، ورام الله، ونابلس، والخليل، وغيرها من المدن الفلسطينية، وتشكل بالاضافة لما سلف ذكره جزءاً هاماً من الهوية الجمعيّة الفلسطينية، ومكونات عمرانية ذات أهمية معرفية، ومكونات جمالية تعكس ندرة معمارية.

من هنا تأتي أهمية هذه العناصر والمكونات، وأهمية الحفاظ عليها كعناصر أساسية لتكوين فضاء مدننا. إن قيمة مكونات المدينة المعمارية والعمرانية، لا تُستمد فقط من قيمتها التاريخية أو الجمالية، كما هو متداول عموماً، وكما عكسته ردة الفعل الرسمية لبلدية رام الله كاستجابة للاحتجاج العام لهدم المباني من الفئة المشار إليها هنا، والتي تجسدت في بيان البلدية التوضيحي. يمثل هذا البيان سطحية مطلقة في فهم العمارة في إطار جمالي او نوستالجي، دون إدراك أهمية العمارة والعمران كوعاء اجتماعي، وحضاري، ووظيفي، وثقافي، ودورها في رفع مستويات المعيشة، وتحسين الصحة البيئية وتحقيق الرفاه الحقيقي المبني على نموذج تنموي راشد، بالإضافة لدور العمارة الريادي في تشكيل الهوية الجمعية، والتي كما أسلفنا تعد ذات أهمية بالغة في سياق الواقع الاستعماري المعاش في فلسطين.

تعد مثل هذه الرؤيا المحدودة أساسا لكل الممارسات العمرانية المعاشة في مدننا، والمتمثلة في تشجيع وتسهيل وتمكين موجة الاستثمار العقاري، وظهور مشاريع مسطحة بصريا، كما وتشرّع مثل هذه النظرة مسألة التعدي على كل ما يحمل قيمة معمارية، حيث أنها لا تجدها أهمية ملحة كون هذه القيمة وحسب فهمها إما جمالية بذخيّة، أو تاريخية تسقط في كثير من الأحيان في حيّز الضبابية.

مسوغات الملكية الخاصة والقيمة المالية

يساق إلينا في هذا الجانب مسوغات أخرى مرتبطة بالملكية الخاصة والقيمة المالية، وحق المستثمر، والذي هو أيضا انعكاس لفهم خاطئ يعززه غياب الوعي الجمعي، وسيادة الطمع الفردي، وتغييب دور المؤسسة الرسمية الفاعل، ولا أقصد هنا البلدية وحدها وإنما جميع المؤسسات الرسمية والوزارات ذات العلاقة المباشرة، حيث لا يمكن للبلدية تحمل هذه المسؤوليات وحدها.

إن مسألة الملكية الخاصة في المدن تخضع بشكل أساسي لمفهوم العام وأي ممارسة متعلقة فيها تأتي في إطار محددات الحق المديني التي تلعب المؤسسة الرسمية عادة، الدور الأساسي للحفاظ عليه.

إن قيمة الممتلكات الخاصة تأتي في إطار قيمة محيطها، والخدمات المتوفرة، ودور المجتمع، وهي جزء ممتد من محيطها، لذا فإن أي ممارسة على هذه الملكيات تخضع لمنظومة قوانين وأنظمة تحدد طرق الاستعمال وطبيعة وطريقة التدخل بالإضافة إلى وجوب عرضها للرأي العام، ويجب أن يكون ذلك مضموناً ضمن الحق القانوني، الذي وفِي كثير من الأحيان يتم تحييده لحسابات خاضعة للمنطق العام الديماغوجي. 

مسوغات عملية التدخل 

بشكل عام، تهدف عملية التدخل في المدن والبلدات، وكل ما يرافقها من عمليات تخطيط وتدخلات حيزية وعمرانية، وتأسيس للبنى التحتية إلى تحقيق الأهداف التالية: تطور اقتصادي، تقديم حلول للقضايا الوظيفية والاجتماعية، رفع الوعي الجمعي والحفاظ على الهوية الثقافية، وتعزيز فرص الترفيه والاستمتاع الحيزي.

إن الحفاظ على مكونات المدينة المعمارية وتعزيزها يقع في مركز ذلك، حيث تصْب في مسألة تعزيز الوعي الجمعي من خلال إبراز المكونات الثقافية للمدينة، والتحولات التاريخية فيها. يضاف لذلك الدور الذي تلعبه هذه المكونات في تعزيز الهوية الثقافية، والتي تعزز عملية تشكيل هوية الفرد وتحدد انتماءاته وطرق تفاعله مع محيطه.

كما وتلعب هذه المكونات دورا أساسيا في صياغة شكل مدننا كنتيجة لتراكم مجموعة من الطبقات التاريخية المتنوعة، الأمر الذي يَصْب إيجابا في التكوين الجمالي للمدينة والذي يرتبط بتعزيز الترفيه المديني والشعور بالملكية.

أسباب تبريرية واهية

لا يمكن المرور على قضية إزالة الموروث المعماري العائد لحقبات معمارية متنوعة، وإقصائه من حيّز مدننا مرور الكرام، كما ولا يمكن تقبله كتحصيل لمجموعة من الأسباب الواهية.

إن الادعاء بأن الحفاظ على هذا الموروث يستند على ما هو نظري وليس واقعي، هو ادعاء سطحي منفعي، يعكس إنحسارا في الخبرة والمهارة والمعرفة المعمارية، وسيادة روح البيروقراطية، وغياب القدرة على تحديد ما هو واقعي.

كما أن عجلة التقدم والتطور الاقتصادي للمدن تدفع في العادة، وكما تظهره التجارب الإقليمية والعالمية، إلى تعزيز وحفظ ما هو ذا قيمة معمارية عاليا، لما يضفي ذلك من ارتفاع في جودة المحيط العمراني والواقع المديني، ويؤصل حالات الترابط الاجتماعي ويعمق شعور الانتماء وما يرافقها من حرص على البيئة المكانية، بحيث يؤدي مثل هذا السلوك الى خلق توازن بين المشاريع الاستثمارية المقترحة والحديثة الإنشاء والطبقات الأصلانية التاريخية، والمكونات المعمارية عالية الأهمية، وفوق كل ذلك الحيّز المديني العام.

كما أن إعادة تطوير خطط لإعادة استخدام هذه المكونات المعمارية الهامة، تعود بشكل نفعي عال على المستوى الفردي والجمعي، كما هو الحال في معظم دول العالم المتقدم، بدل محاولة إعادة إنتاج هذه المكونات في مبان تجارية معاصرة، بطريقة سطحية واهية ومزيفة، تهدف بشكل أساسي لتسويق العمارة، وتحقيق رغبة المستثمر دون الأخذ بعين الاعتبار مصلحة المدينة وسكانها.

تجدر الإشارة هنا إلى أن الحفاظ على معالم المدينة المعمارية لا يعني بالضرورة عملية تجميد وتحنيط هذه المكونات، بدليل التجارب الريادية في المدن الإقليمية والعالمية،غير المحصورة، في طرق التدخل والإضافة وإعادة الاستخدام والتي شكلت نماذج مميزة على المستويات الثقافية، والبيئية، والاجتماعية، والجمعية، والاقتصادية في هذه المدن.

خلاصة

بناء على كل ما ذكر، فإنه لا بد من وقفة جادة لحماية فضاء مدننا من أي تدخل قد يؤدي إلى سلب طابعها وقيمتها الأصيلة، سواء عن طريق تشكيل لجان استشارية داعمة للبلديات والوزارات، مشكلة من مجموعة من ذوي الاختصاص والخبرة، أو من خلال تطوير قوانين وأنظمة لحماية المكونات المدينية وتحديد طرق التدخل، ومنع التجاوزات القانونية تحت مسمى التسهيلات المقدمة للمستثمرين والتي تعمل على تدمير حيّز المدينة وطابعها.

كما ولا بد أن يتم عرض أي قرار يمس الحيّز العام وفضاء المدينة ومكوناته للرأي العام وذلك بهدف تعزيز مفهوم الحق المديني والمشاركة المجتمعية، حيث أنه وبما أن عملية إدراج أي بناية شيدت بعد 1917 كمبنى أثري هام، وحسب القانون، يجب ان تمر على إعلان الاعتراض، مثلها مثل أي مخطط هيكلي، وذلك لحفظ المصالح الفردية، فإنه ومن الجدير بمكان عرض أي قرار يمس الحيّز المديني والمصلحة العامة لنفس العملية.

لا بد من وقفة جادة لكل المؤسسات المسؤولة، والمكونة للمجتمع الهندسي والمعماري والثقافي، سواء نقابة المهندسين وجمعية المعماريين، والجامعات المحلية، والوزارات والبلديات والمعماريين، والمراكز الثقافية والفنانين …الخ.

بالاضافة لكل ما ذكر، يجب الدفع باتجاه رفع الوعي العام تجاه الحيّز المديني ومكوناته وأهميتها وطرق التعامل معها. إن الحفاظ على هذه المكونات سيعمل على تعزيز الهوية الوطنية، في وجه الاحتلال وعمليات الاعتداء والهدم التي تتعرض لها مكونات هويتنا الفلسطينية، ويحول حيز مدننا إلى مكون فاعل ومؤثر حقيقي في صياغة ثقافة مجتمعنا، بحيث تلعب المعالم المعمارية فيه الدور الأساسي.