الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

المقنع الفلسطيني.. العابر بنا العوالم الخطرة

2018-11-30 08:29:16 AM
المقنع الفلسطيني.. العابر بنا العوالم الخطرة
ملثم فلسطيني في مواجهات مع الاحتلال

 

الحدث ــ محمد بدر

في 5 نوفمبر 1605م ألقى حراس الملك البريطاني جيمس الأول، القبض على "جاي فوكس" "الثعلب" الذي حاول تفجير مقر البرلمان البريطاني بـ(2.5) طن من المتفجرات  أعدّها ورفاقه الثوار. كان "الثعلب" قد اكتسب مهارته في تصنيع المتفجرات من خلال عمله العسكري في الجيش الإسباني، ولكنه لم يكن خبيرا في صناعة المتفجرات فقط، بل وكان فنانا في التخفي والتنقل أيضا، وكان أول من أقحم "القناع" في العمل السياسي والأمني بعد أن كان "القناع" رمزا دينيا وفنيا (مسرحيا) في أوروبا.

ارتبط مفهوم القناع في الحضارات القديمة بالدين، واستدعي كسلاح فعال في الشعائر الدينية القديمة في مقاومة الطبيعة والسحر، قبل أن يصبح أداة من أدوات العمل المسرحي في المسرحيات اليونانية والهندية والرومانية، وكان يُطلق عليه باللاتينية persona ومعناها بالعربية "الصورة التي يعكسها الفرد للناس عن نفسه"، وكذلك، كان أداة من أدوات تغيير الأصوات في العمل المسرحي اليوناني والروماني، وكان يُطلق عليه في بعض الأحيان "مقود الصوت".

ورغم التعدد الوظيفي للقناع في الحضارات المختلفة والعصور المتعاقبة، إلا أن جمهورا عريضا من علماء الاجتماع يرون أن القناع ليس ذاتا منفصلة عن الذات الأساسية (الإنسان)، وهو المبدأ الذي يؤكد عليه عالم الاجتماع الإيطالي أليساندرو في قوله إن التنكر مرادف للشخصية وإن اللحظة التي يرتدي فيها الشخص القناع  لا يعبّر فيها عن شخصية وهوية أخرى ولا يعبر لشخصية وهوية أخرى، بل إنها هويته الحقيقية في تلك اللحظة.

القناع يقدم نهجين مختلفين لهوية الشخص. يفترض النهج الأول وجود شخصية أساسية يغطيها القناع  في أحداث مختلفة، ويخفيها، بل ويخدعها (القناع) من خلال تقديم نفسه كشخصية حقيقية. على سبيل المثال، استخدم عالم النفس كارل جوستاف يونغ مصطلح "شخصية" للتأكيد على الطريقة التي يتكيف بها الناس مع نظام اجتماعي معين. يقول يونغ ـ وهو مؤسس علم النفس التحليلي ـ  "إن القناع هو النظام الذي يتبعه الفرد في تكيفه مع العالم، وهو ما لا يكوّنه المرء في الحقيقة، بل هو ما يعتقد ـ كما يعتقد غيره ـ أنه هو".

النهج الثاني لا يفترض وجود شخصية مركزية، ويرى أن القناع هو هوية حقيقية أخرى، وأنه حقيقة تؤكد حقيقة تعدد الهويات. هذ النهج يذكرنا بالافتراضات الأساسية للبوذية التي ترفض مفهوم الذات. والشرق لا يمتلك حصرية هذا الوصف للإنسان، لأن الغرب كذلك مليء بالنظريات الفلسفية والنفسية والأنثروبولوجية التي ترفض الذات و تصف الإنسان على أنه يحتوي على عدد كبير من "الذات".

يتضح من خلال دراسة التاريخ الاجتماعي للكثير من المجتمعات أن المجتمع سمح للفرد بلبس القناع بشكل منظم في الطقوس والكرنفالات، ما يعني أن المجتمع سمح للشخص باستخدام هويات أخرى، أحيانا غريبة ومخيفة، في ظروف ومعطيات بيئية اجتماعية خاصة. وفي السياق الإنساني العام لتشكل الطقوس، يظهر القناع بالفعل في عصور ما قبل التاريخ، في الشعائر الشامانية. وفي الأماكن التي تمارس فيها الشامانية. والشامان، هو الشخص الذي يمسك بعالم الروح، ويعتمد عليه المجتمع باعتباره ممثلا له في الأحداث الطارئة غير المتوقعة، وسفير وممثل عبوره للعوالم الخطرة. وبحسب الاعتقاد الشاماني، حينما يواجه الشخص واقعا أكثر تعقيدا أثناء ارتداء القناع، فإنه يتعامل مع الواقع المعقد بهوية مزدوجة: هويته الشخصية وهوية الشخصية التي يمثلها القناع.

بالعودة لـ"جاي فوكس"، فإن القناع ذو الوظيفة السياسية استمد بعض معانيه من السياق المفاهيمي للقناع بشكل عام، وأضاف إلى هذه المفاهيم مفهوما جديدا مرتبطا بطبيعة فعل الذات وفعل الآخر، بمعنى يعكس القناع صورة الثائر المصرّ على مقاومة المظلم، ومن ناحية أخرى يكشف عن حقيقة وجود الاستبداد والظلم، ويرتبط ضمنيا بأداء المقاومة (النضال) كنظام كشف عن حقيقة الذات المُقاوِمة وحقيقة الذات المُقاوَمة.

استخدام القناع من قبل المقاتلين ليس حكرا على الجماعات التي تواجه الدولة أو المنظومات الرسمية، فبعض الوحدات الخاصة التابعة للجيوش النظامية يلبس أفرادها القناع، انسجاما مع مبدأ ديني قديم "الشامانية" يرى بأن المقنع هو ممثل المجتمع في العوالم الخطرة (الشريرة) التي لا يستطيع المجتمع ككل أن يسكنها، لكن ممثلين عنه يستطيعون العبور لها وفيها ومواجهتها. 

يكشف القناع في الزمن الفلسطيني عن الفترة والمكان الذي يتواجد فيه الفلسطيني، لأنه تعبير عن الحياة الأخرى أو البديلة. والقناع في الزمن الفلسطيني يعبر عن الفترة (الاحتلال) وعن المكان (الاحتلال)، باعتبار هذا الاحتلال محتل للمكان والزمان. كما ويصهر القناع الفلسطيني ذات المقنع بذات المجتمع وقضيته، إذا ما تعاملنا مع القناة كأداة دمج بحسب مبدأ يونغ، ويجعل من الذات ممثلا للقناع ومن القناع ممثلا للذات، كما فعل الشاعر المصري أمل دنقل أدبيا مع المسيح عيسى.

إن المقنع الفلسطيني هو ذلك الشاماني الذي يريد أن يعبر بنا المخاطر والمستحيل، على الأقل هكذا كنا نشعر في حرب 2014 بانتظار ظهور المقنع أبو عبيدة، وعلى الأقل هكذا سنشعر مع أي مقنع قد يخرج علينا اليوم في الضفة ممثلا لعبورنا نحو الشمس والقمح والفقراء وفلسطين. والمقنع الفلسطيني هو "هذا أنت هو" المنخرط في مشاعر مجتمعه حد المفاجأة، متحديا مزدوجين وعالمين.