إننا الآن نخوض في شأن قانوني بحت. يحكى أن مرضاً شاع بين السياح من مختلف الأديان بعد زيارتهم للقدس، يقول العلماء أنه موجود فعلاً، أسموه "متلازمة القدس" بامكان الجميع التحقق من ذلك عبر ويكيبيديا. يدّعون أن من يبتلى بالمرض قد يعاني من اضرابات عقلية وهلوسات، وقد تتعاظم الحالة لدى بعضهم فتصير رغبة ملحة في زيارتها مراراً دون معرفة السبب. كنت قد سمعت بالأمر ومضيت أنكره بل اعتبره خرافة، حتى رأيت هذه الصورة! يمكنني الآن الجزم أنني مريض جداً من مجرد صورة، اذاً فالأمر حقيقة. أشعر أنني محموم! لست بخير وأتهم المصور بدفع الأذى نحوي، وتعمد التسبب لي به، كما أنني أنوي مقاضاته في كل المحافل قريباً وسأضع في لائحة الاتهام الكثير. إليكم القصة.
كنت قد أجريت فحصاً لعيني قبل أسبوع، ولدي تقرير موقع ومختوم بالنتيجة. باستطاعة القاضي أن يثبت تورط المصور في التسبب بشكل أو بآخر في تراجع قوة نظري إن أنا أبرزت فحصاً حديث العهد لعيني بعد أن رأيت هذا المشهد. في الحقيقة طالعت كل شي في الصورة، كل شيء. حملقت فيها لساعات، قمت صباح اليوم بعد حجارة السور الظاهرة، وخزانات المياه والمنازل ذات القباب أحصيتها مراراً، ركزت بشكل مبالغ فيه بشدة في نوافذ البيوت الصغيرة، وفي أجهزة استقبال القنوات الفضائية على سطوخ المنازل. عينيان تولمان كثيراً، تدمعان بلا سبب وجيه. وحده المصور المسؤول عن فظاعة ما حل بي.
كلي يقين الآن أنني أستطيع إدانته بطرق شتى! قالوا أن جهازاً ما في المشافي يستطيع الكشف عن طنين الأذن، أشعر بدوار شديد جراء سماع اصوات أظنها ليست موجودة، ساستشير طبيب أعصاب كذلك، فقد يكون المرض عقلياً وبهذا تزيد عقوبة خصمي. سمعت بالأمس صوت السلطان سليمان القانوني يملي على حاجبه أمر بناء باب العامود، وكذلك صرخات المعماري درويش الحلبي يوبخ البناءة والعمال بعد أن اكتشف قوساً لا يشابه تصميمه الذي صممه للباب، لم ينفذونه كما أراد! كان يهدد بنقل النبأ للسلطان، شتم أيضاً بالتركية ولم أفهم. على أقصى يسار الصورة ثمة حجر دائرى واحد حوله حجارة مربعة، سقط يوماً على يد عامل من الأحباش فنقلوه ليلاً على ظهر بغل الى دير قريب، لا أنفك أسمع صراخ الرجل. في رأسي أيضاً صوت فتاة تجلس في خان الزيت و تبكي ليلاً حين علمت أنهم باعوها لسيد من أرض غريبة، ونقلوا حبيبها مع الانكشاريين الى العراق. في رأسي صوت صهيل خيول حضرت من أقاصي الأرض مع أصحابها المغاربة ليبيعوا التحف في القدس.
سأكتب في الشكوى ضد المصور أيضاً أن أنفي تضرر. أعاني عطاساً شديداً جراء استنشاق بهارات أحد العطارين ممزوجة ببخور ايراني فاحت من صورته، طبيب مبتدء كفيل باعطائي تقرير بذلك وسارفقه مع اللائحة. تعلمون كيف تتشقق الشفاه في الخريف، شفتاي استهلكتا تماماً وتنزفان من شدة قضمهما بأسناني الأمامية وأنا محملق في جمال قبة الكنيسة أقصى يمين الصورة. قد يفيد هذا التفصيل في مجريات القضية.
علي أن أعثر على الرجل صاحب الصورة، ساراسل اصدقائي المقدسيين الليلة، يكفي أن يعطونني اسمه الرباعي أو عنوان بيته وسأتكفل بالباقي. أعرف محامياً بارعاً سألجأ له، وأتبرع بصياغة لائحة الاتهام بنفسي.
بقي أمر آخر! أنا لا أنام منذ أيام، وإن نمت أحلم بالقدس للضرورة. النوم حق لكل انسان، وأحدهم تسبب بحرماني من النوم بصورته هذه، لا بد أنه كان بارعاً، انظروا كيف تحين وقت الغروب واصطاد الغمام الأسود، لا بد أنه محترف، لكن هذا لا يمنع مقاضاته و يجب أن ينال عقاباً رادعاً.
لكن للأمانة، ثمة شيء غريب في الصورة. لاحظت أشكال الزوار! ركزت بشدة في كل البادين في المشهد. الداخل الى الباب لا يشبه الخارج منه. من يستعد للدخول يبدو عليه الشوق والنشاط، أما الخارج منه هزيل متعب. يشبهون كثيراً الهواء المحمل بالاكسجين يدخل جوف الانسان نقياً، ثم يخرج على شكل ثاني أكسيد الكربون المستهلك. قف هناك ساعة وستفهم ماذا أقول، لهذا ربما قالو أن هناك ما يشبه المتلازمة و كانوا محقين! القدس ليست مجرد مدينة، هي رئة كبيرة تتنفس منها كل كائنات الأرض.
الليلة سأجمع تقاريري و قرائني وبياناتي وأمراضي وسأبدأ الهجوم، ابحثوا عن المحمومين رفاقي ولنقف صفاً واحداً ضد هذا الجمال و صانعيه. و "المحاكم بيننا"