منذ الخروج من بيروت إلى تونس والسودان والجزائر تحت يافطات الانتصار وأغاني بيروت خيمتنا الأخيرة وكأننا كنا نعلن صراحة أن بعد بيروت لا شيء جديد فهي انتصارنا العجيب الأخير وهي الخيمة الفلسطينية الأخيرة وبالتالي فلا خيام بعد خيمة بيروت ولا سلاح بعد سلاح بيروت فلا قتال من أدغال السودان وصحراء الجزائر وحواري تونس العاصمة ودهاليز مكاتبها ومنذ انتصارات الخروج واحتفالاته وقبل أن نصل الى مدريد وأوسلو كان مقاتلي الثورة الفلسطينية الذين تم نقلهم إلى ابعد مكان ممكن عن تخوم الوطن يبحثون عن عمل بديل أو مصدر رزق بديل بعد أن تم إيقاف صرف مخصصاتهم إلى أن وصلوا حد الجوع مما جعل معارضة أوسلو أمرا غير ممكن فلقمة العيش باتت هي الأساس الواقعي لأحلام البسطاء من أبناء الثورة الفلسطينية والذين ظلوا يشكلون الدرع الحامي للحقوق المشروعة للشعب بالتحرير والحرية.
بعد الخروج من بيروت لم يبق على الأرض أي وجود عسكري حقيقي لقوات الثورة الفلسطينية خصوصا في دول المواجهة وتم حجب الأموال عن الثورة الفلسطينية حتى صار من الصعب الصرف على مئات الآلاف من منتسبي الثورة الفلسطينية وصار التخلص منهم هو الحل الأمثل للازمة المالية قبل أزمة القضية الوطنية وبحث العديد منهم عن ملاذات بديلة من بينها اللجوء السياسي أو الإنساني الى الدول الأوروبية وغيرها وصار الخلاص الفردي هو الحل الأمثل لدى جموع الثوار ومع ذلك ظل الخطاب السياسي الفلسطيني يتابع لهجة الثورة والانتصار دون أي وجل وكان شيئا على الأرض لم يتغير.
لا احد في الثورة الفلسطينية جرؤ على فعل المراجعة أو حتى المطالبة بها عند كل مرحلة مفصلية وبخلاف الانتقال الى الثورة المسلحة العلنية بعد هزيمة عام 1967 م واصطفاف الشباب الفلسطيني تحت رايات الفصائل الفلسطينية المختلفة وظهور التيارات الفكرية والسياسية المختلفة في أوساط الثورة والشعب والتي تواصلت حتى أحداث أيلول عام 1970/1971م في الأردن وما جرى بعدها من خروج إلى سوريا ولبنان ولم يكلف أحدا نفسه عناء السؤال أو التساؤل أين كانت جريمتنا أو غلطتنا حتى وصلنا إلى هذا الحال ومن هو المسئول عن ذلك لم تجري أية مراجعات ولا محاسبات وكذا تكرر الأمر بعد وأثناء الحرب الأهلية في لبنان والتي انخرطنا بها بلا معنى وبعد الخروج من بيروت الى أن وصلنا الى أوسلو على الأرض ونتائجها ومخرجاتها ومع ذلك ظل الخطاب نفس الخطاب وظل الصوت نفس الصوت وحتى الأصوات الخافتة التي حاولت أن تنادينا لنصحو قلبنا أصواتها لتخدم غفوتنا الطويلة بنشوة نصر لا وجود له حتى اليوم.
في قصيدته بيروت خيمتنا الأخيرة يقول الراحل محمود درويش:
سبايا نحن في هذا الزمان الرخو
أسلمنا الغزاة الى أهالينا
فما كدنا نعض الأرض حتى انقض حامينا
على الأعرس والذكرى فوزعنا أغانينا على الحراس
من ملك على عرش الى ملك على نعش.
ولكننا أبدا لم نقرأ صرخة محمود درويش فينا وتحذيره من تسليمنا من قبل الغزاة الى أهالينا وانقضاض هؤلاء الأهل الذين من المفترض أنهم حماتنا علينا وعلى قضيتنا التي باتت ذكرى لنا ولجوئنا لتسليم راياتنا " فوزعنا أغانينا " وبدل أن نفتح أبوابنا لريح البحث والتمحيص والنقد والدراسة حولنا الصرخة الى أغنية والوجع الى ترنيمة صارت حكاية نصر كاذب وصار الكل يغني بيروت خيمتنا الأخيرة دون أن نتنبه الى صرخته " درويش " ببيروت متسائلا
بيروت ... من أين الطريق الى قرطبة؟
وما أدراك ما قرطبة وكأنه كان يقول إنها آخر ممالكنا وبعدها لا حائط نستند إليه ولا مكان للرجوع بعد أن غيرت بوصلتك وغيرت اتجاهك
لأي حزب تنتمي
حزب الدفاع عن البنوك الأجنبية واقتحام البرلمان
ثم يصرخ وجعا في نهاية ندائه القصيدة
ولد أطاح بكل ألواح الوصايا
والمرايا
ثم نام
ثم نام
ثم نام.
هذا هو حالنا حين غادرنا بيروت مصفقين لخيمتنا ألخيرة دون أن ندري أن القصيدة لم تكن كناية عن وهم بل صرخة للحقيقة وحين التففنا من البعيد لنوهم أنفسنا أننا عدنا إلى الوطن محملين بنصر جديد على شاكلة انتصار بيروت واصلنا الغناء مرة أخرى ودخلنا بوابات الوطن من تحت رايات بنادقهم التي اقتلعت خيمتنا الأخيرة لتعود بنا عراة إلى العراء على أرض نسميها لنا ويمسكون هم بمقالع حجارتها ويلونون التراب على ومسمع ومرأى منا بألوانهم فتصير الطريق الى الخليل لا تشبهنا وشارع القدس غريبة عنا ونحن لا زلنا نغنى لبيروت خيمتنا الأخيرة كانتصار والقدس قبلتنا صلاة في البعيد دون أن نحاول حتى الإمساك بطهارة حجارتها مكتفين بالغناء لغيابها لعلها وحدها تعود دون أن نعود.
ما قادني إلى بيروت هو ما تقوم به إسرائيل اليوم من عملية نوعية أسمتها عملية الدرع الشمالي بتفكيك البنية التحتية للمقاومة اللبنانية متمثلة بحزب الله وسط صمت مريب من الجميع بلا استثناء واخطر ما في هذا الصمت اللغة العجيبة التي بات يسمعها البعض فينا عن ان العملية الإسرائيلية تجري في داخل الأراضي الإسرائيلية وهي لغة جديدة على المقاومة التي لا تعترف في الأصل بوجود دولة الاحتلال وهذا أيضا ينسحب على الخطاب السياسي لدينا في فلسطين بان التزام إسرائيل بضبط النفس وعدم الاعتداء يعني التزام مقابل بهذا الشكل أو ذاك وان الرد سيكون مجلجلا إذا حاولت إسرائيل الاعتداء على غزة مثلا والسؤال إذا لم تحاول إسرائيل فعل ذلك فهل نعتبرها باتت غير معتدية ألا يعني ذلك إعادة صياغة غريبة للعقل والذهنية والقناعات الفلسطينية بحيث جري تطويع صورة الوطن وجغرافيا الوطن في أذهاننا بلغة جديدة ورؤية جديدة لا تنتمي لتاريخنا ولا لقضيتنا ولماذا تترافق هذه اللغة والمفردات مع حالة التجويع المتعمد على غزة من كل العالم ما عدا قاعدة أمريكا في الشرق الأوسط, ألا يستوجب ذلك منا قراءة لحال فعلنا بدل الإبقاء على حالة قولنا بثورة تحولت إلى شعارات لا علاقة لها بالواقع ولغة صارت تعتبر الصمت وطنية ايجابية والفعل نبش لتخريب المسيرة, السنا إذن من عملنا على تحنيط الثورة لصالح تغييب القضية فجميعنا نعلن رفضنا للمؤامرة ونهتف ضدها في الغرف المغلقة ومن خلف الأبواب أو الكاميرات في أحسن الأحوال بينما نرى بكل أعيننا أن المؤامرة يجري تنفيذها ونعلن أن ذلك فعلا يجري وحين نتحدث عن الفعل لا نجد إلا فعلا واسعا ملفتا للنظر في موضوعة حياتية مطلبيه كموضوعة صندوق الضمان, ألا يستوجب منا ذلك مرة أخرى الصراخ بأعلى الصوت هل صار الخبز وطن والفرد قضية