وُلدتُ بعدَ الانتفاضة بنحو تسعة أعوام، "كانَ الجوّ مربدًا رهيبًا"، ونشوة النّصر/ المهرب الوحيد تخطف الأبصار. في السّياسة –كما في الحب- وضعُ كلّ شيء على الطاولة مرّة واحدة أمرٌ غاية في الكارثيّة، ونزول سلّم التّنازلات أيضًا، ولأجل أن ندركَ ذلك كانَ علينا أن نجرّب مرتين – في السّياسة وفي الحب-، وكانَ علينا أن نُجرحَ كي نتعلّم: "لَن يكبرَ العشّاق حتّى يجرحوا"، ولكن هل يَكبرُ السّياسيون؟، وهل تتكرَر الفرص؟
جدّتي التي عاشَت أيامَ الانتفاضَة بشكلٍ جيّد لم تروِ لي شيئًا عنها، وجدّتي الأخرى لم تروِ لي إلّا انتظارها لعودة جدّي من الكويت، لستُ مغرمًا بقصصهن، لكنّني أشعُر بعقدةِ نقصٍ حينَ أحاول استذكارَ أي شيء قيل في السّياق، أي حادثٍ كان يُمكن أن أعتبره شهادَة جدّتي على أيّ شيء، أيّ شيء كان يخصّ يقيني، لينقذني من أن أظلّ عالقًا بينَ بينْ، كـ(أونودو) – بطل نهر يستحم في بحيرة الموازي ليحيى يخلف-، الذي بقي لسنين بعد هزيمة بلاده اليابان في الحرب العالميّة الثانية، ثابتًا في كمينه، يرفض كل الدّلائل التي تشير إلى الهزيمة، إذْ انتظر (أونودو) المُتماهي بي/ بالفلسطيني في متراسه ثلاثين عامًا، ينتظر عدوًا لا يأتِ، ويرفض تصديق المنشورات التي ألقتها الطائرات المعادية معلنةً استسلام بلاده، كَما يرفض تسليم سلاحه عندما يتحقق له صدق هذه المنشورات، وَ يُصر على البقاء في كمينه، وعندما يضطر لمواجهة الواقع الأليم يصاب بصدمة نفسية حادة، "فقد وجد نفسه فجأة رجلًا بلا قضية."
على أيّة حال، فإنّنا لا نستطيعُ الكتابة عن الأحداثِ العظيمة إلّا بعدَ مضيّ فترةٍ من الزّمن عليها، ذاكَ أنّ الصورة ترتفعُ أكثر، وترجع ردّاتُ الفعل خطوة إلى الوراء، ويقتنعُ "أبو صالح"/ "أونودو"/ أنا/ الفلسطينيّ أنّ جَبلَ الرّماة فارغٌ تمامًا، رغمَ فشل الاحتلال تمرير مشروع إدانة المقاومة قبل أيام، وأن ثمّة خطوة لم يعد بالإمكان الرّجوع عنها أو بها، ويجب الانطلاق مِنها أولًا.
عليّ أن أتوقّف عن أخذِ الأمور على محمَل الهَزل، السّياسة أقصد، لأنّه ورغم ولع الجميع بجملة كونديرا الشّهيرة إلّا أنّ الاستثناءات حقيقيّة وموجودة، لهذا فأنا أتذكّر الانتفاضة الأولى بشكلٍ جيّد، ولعلّ المتوكّل طه عزّز فيّ هذا حينَ قال: إنّ مهنّدًا قد عاشَ في زمن آخر، كانَ فيه شاعرًا أيضًا، أوافقُ الأولى، ولضرورات الكِتابة ووجود درويش أعارض الثانية بشدّة، أتذكّرها من التاريخ الذي لم يترك شيئًا، أتكّرها وأنا مقتنعٌ تمامًا أنّ أوسلو لم يَكن ثمرةً للانتفاضة، أعترفُ بهذا بعد واحدٍ وثلاثين شُرفة دامية، ونعترف جميعًا، لكنّه كانَ مهربًا وحيدًا أمام المنفيين في أقاصي إفريقيا الشّماليّة، مهربًا وحيدًا بعد كامب ديفيد وخروج مِصر والعربِ تباعًا من الصّراع، مهربًا وحيدًا بعدَ بيروت صبحًا/ظهرًا/ عصرًا، بعدَ بيروت ليلًا: "وجهي أمامَ البحرِ لا"، كانَ فخّنا الوحيد أن نستمرّ بلعبة التّجديف من منتصف النّهر، كانَ فخّنا الأخير الذي نستميتُ الآن للحِفاظِ عليه، كانَ "أحد عشر كوكبًا" إرهاصًا لا يُمكن تَجاوزه.
هَل يهمّ هذا الآن؟، وبصمات الأموال القطريّة التي دخلت عَبر تل أبيب تدبغُ واقعنا بالتّناقض، وغزّة قابَ انفصالٍ كامِل، وبعدَ سَنة لا عام على قرار ترامب، هَل عاد مجديًا مناقشَة هذا؟، الوَطن أم المنفى، الحقيقي أو المثالي، الخطأ أم المهرب، المدينة أم فقاعة المدينة، القادم المَجهول جدًا، جدًا لأبعد حدٍ يمكن تحمّله، أو توقّعه، بعدَ واحدٍ وثلاثينَ عامًا نحنُ إلى أين؟، ونحنُ تَشمل مَن يا سادة؟!