الأربعاء  27 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

قواعد الأمان في تطبيق الضمان "2"/ بقلم: كمال هماش

رؤية في ترميم الثقة..

2018-12-10 08:35:41 AM
قواعد الأمان في تطبيق الضمان
كمال هماش

 

في مقال سابق تحت ذات العنوان والمنشور في الحدث في الثامن من الشهر الماضي، تم استعراض الدوافع القانونية الضرورية لتمكين قواعد الضمان، عبر المسارعة في تشريع بعض القوانين الأساسية لتنظيم سوق العمل كمقدمة لضبط البيئة القانونية المتصلة بتطبيق الضمان، وتقليص التداعيات السلبية الناتجة عن غيابها والمتعلقة بالشعور بالثقة والأمان لدى المشتركين ماديا ومعنويا.

وفي هذا المقال نؤكد أن الغرض منه إثارة نقاش بناء وفاعل، يشترط في مرجعيته التوصل للصيغ الأمثل لترميم الثقة بين الأطراف ووضع أدوات فاعلة كركائز مادية للثقة يساهم الجميع في إقرارها، على الرغم من أن كامل بنية هرم الثقة على مستوياته ومؤسساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية تضررت كثيرا خلال سنوات حكم السلطة، لتكتمل عناصر أزمة الثقة الجامعة.

فالثقة التي تمتعت بها القيادة الفلسطينية ما قبل أوسلو وعلى علاتها لم تعد قائمة في مؤسسة السلطة في ظل فشل النموذج الديمقراطي الفلسطيني، وتصلب الهياكل المنتجة لواقع الانقسام، ويتعزز ذلك بغموض مستقبل هذه السلطة واستدامتها عبر التهديد من جانب قيادة السلطة والمنظمة، بتسليم مفاتيح السلطة للاحتلال ليتحمل مسؤولياته.

إن استخدام هذه الورقة الخطيرة للضغط على رعاة وأطراف عملية التسوية المتضمنة في إعلان أوسلو من جهة، ومن جهة أخرى فإن إعلانات حماس التي وصلت للتشريعي وشكلت حكومتها تحت ظل أوسلو ومشروع المنظمة، بأنها لا تعترف بالاتفاق ولا بمشروعية تمثيل المنظمة ما لم تمتلك حصتها، وكل ذلك في ظل غياب برنامج سياسي كفاحي وتوحيدي يساهم في تمكين الولاءات الخارجية.

وفي دوامة هذين الموقفين، فإن المواطن والعامل الفلسطيني سواء من يشمله استقطاب الطرفين أو من هو خارجهما، لا يسعه الثقة ببرامج ومشاريع وأنظمة اقتصادية واجتماعية مفصلية تطرحها هذه الأطراف التي لم تقرر بعد مصير مظلتها السياسية برنامجيا.

وأعتقد أن استمرارية السلطة السياسية بسقفها القائم أمر بديهي، بحكم أن تشكيل السلطة لم يعد قرارا فلسطينيا بعد أن تم اعتماد اتفاق أوسلو دوليا، ونتائجه التي استبدلت بالعمل الثوري للتوصل للاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية من جهة، ومن جهة أخرى جاهزية مراكز قوى اقتصادية واجتماعية جديدة نشأت في ظل هذه السلطة للحلول محل مكوناتها التقليدية إن قررت الانسحاب.

ومن المهم التأكيد هنا بأن استعادة مصادر الثقة في بعدها السياسي غير ممكنة خارج إطار استعادة المؤسسة السياسية الوطنية لوحدتها، عبر انتخابات سياسية شاملة لمكونات المنظمة والسلطة والتي تتآكل شرعيتهما يوميا، وذلك كمقدمة لترشيد وحوكمة مختلف المؤسسات ومنها مؤسسة الضمان.

وفي الوضع الراهن فإن مسألة عدم ثقة المواطن ببرامج هذه السلطة تنتقل إلى مستوى آخر، وهو مستوى الثقة برشاد ونزاهة وأمانة المسؤولية، ارتباطا بتعايش السلطة المستمر مع فساد يتمثل بالثراء الفاحش لما يمكن تسميته بـ "لوردات الفساد الرسمي والأهلي"، وغياب المحاسبة والمساءلة، وتفشي الإقطاعية الوظيفية في مجتمع يعج بالمتعطلين من العمال وذوي الشهادات ويعتبر هذا المستوى الأخطر، الذي يمكن أن يجهض أي منظومة قانونية مهما كانت عدالتها، كما تعرضه مساجلات المحتجين على تطبيق الضمان.

ولعل المعالجة المطلوبة هنا تتمثل في تطوير عمل هيئة مكافحة الفساد وإطلاق يدها في إنفاذ وتطبيق شعار (من أين لك هذا) على أسس موضوعية، ومراجعة سياسات الإنفاق ومبرراتها ومتابعة مؤشرات الفساد البنيوي في هياكل السلطة بعمل دؤوب ترصد له الإمكانيات اللازمة، وصولا إلى استرجاع كافة الحقوق العامة المسلوبة.

وبالتوازي، تعتبر استقلالية القضاء وشفافية التوظيفات في هذا السلك رأس الجهد للوصول إلى دولة القانون، وحماية الثقة اللازمة لنجاح نسبي للخطط التنموية المحكومة أصلا بسقوف دانية موضوعيا، إلى جانب حماية المواطن شخصيا من مظاهر التسلط والتنفذ حيثما يقع، عبر المحاكم المختصة بقطاعات الحماية القانونية المختلفة ومن ضمنها محاكم العمل والضمان.

وهنا لا بد من الانتقال إلى مستوى جديد لأزمة الثقة، وهو عدم الثقة في الإدارة السياساتية لمؤسسة الضمان والتي تمثل الحكومة واتحادات عمالية يراها العمال امتدادا طبيعيا ووظيفيا للسلطة، كما يرى في ممثلي القطاع الخاص شركاء في السلطة إن لم يكونوا يمتلكونها.

فالعامل الذي يرى في ممثل النقابات موظفا براتب على مالية السلطة لن ينظر لهذا الممثل بثقة أكبر من ثقته بالسلطة، كما أن ذات العامل الذي يعرف بعمق مدى استغلال صاحب العمل له، ويستقوي عليه بعدم الالتزام بقانون العمل وبعلاقاته بالمتنفذين في السلطات الثلاث، وامتلاكه لبعض أدوات السلطة الرابعة، يرى أنه يتعرض لاستغلال بالقانون؛ لأنه يرى في الأطراف المذكورة أكلة جثته.

وقد ازدادت المخاوف العمالية لدى تفحصهم لبنية الإدارة التنفيذية للصندوق، والتي تضم في أهم مفاصلها موظفين على صلة مباشرة وظيفيا بأحد ما من أعضاء مجلس الإدارة، علما بأن بناء الثقة بأداء المؤسسة يعتمد كثيرا على طريقة تعيين الموظفين وخبراتهم، ومدى انسجام عملية توظيفهم مع سياسات لنزاهة والشفافية والتوسع في استيعاب الكفاءات، بدلا من احتفاظ موظف ما بوظيفته، والانتقال إلى العمل في الصندوق كفرصة لزيادة الدخل، خاصة وأن الإدارة التنفيذية لصناديق الضمان المبتدئة تقتضي التعاقد مع خبرات وكفاءات فعلية للسنوات الخمس الأولى على الأقل ولحين خلق وتدريب طواقم محلية محترفة.

 

وتنسحب الملاحظات على البنية الإدارية لتمتد إلى الأداء المتوقع في السياسات الاستثمارية ونجاعتها من وجهة نظر العامل، بينما لا يرى بعض القطاع الخاص ضيرا في كل القانون، إذا ما أتيح له المشاركة في استثمار هذه الأموال والمشاركة في أرباحها، سواء عبر صندوق ادخاري في مؤسسته بنظام تقاعد خاص كما طرح البعض، أو عبر شركة استثمار يكون شريكا فيها بمعاييره الربحية كما أشار بعض آخر، وليس من المتوقع تجميد الأعمال لغاية إتمام مواجهة التحديات وإجراء مختلف الإصلاحات، بل تقتضي الضرورة الانتقال العملي إلى الاستجابة لتحديات الثقة المتعلقة ببنية مؤسسة الضمان، وعلى رأسها مراجعة التوظيفات، وتكريس آليات إنتاج ممثلي الشركاء الثلاثة والهياكل الرقابية بما يمنح هذه الجهات مشروعية كاملة وملزمة قانونا من قواعدهم  كعمال وأصحاب العمل.

إن اعترافي والكثيرين بالاتحادات النقابية القائمة لم يكن مجديا في توفير زخم الدعم العمالي لقانون يحمي مصالح ومستقبل العمال أولا، كما أنه لا يعني بحال إن هذه الاتحادات غير فاعلة، بل يعكس عدم كفاية فعاليتها وشمول حضورها في أوساط الطبقة العاملة من جهة وضعف الحقيقة في تمثلاتها القطاعية اقتصاديا، وينطبق الأمر جوهريا على ممثلي أصحاب العمل ومدى حقيقية تمثيلهم، إلى درجة تطرح السؤال الكبير، لماذا لا يتم الانتخاب المباشر لممثلي العمال وأصحاب العمل لإدارة للضمان وغيره من مؤسسات الحوار والشراكة الاجتماعية؟

وحتى لا نسترسل بالاجتهاد في الإجابة، فإن البحث في المخرج يجب أن لا يتجاوز الاستجابة المباشرة لتحدي الشرعيات الكلاسيكية الذي برز في صفوف العمال، وذلك من خلال الإقرار بأن للعاملين غير المنضوين تحت لواء النقابات القائمة، حق أصيل في انتداب ممثليهم إلى هيئة المؤسسة في انتخابات مباشرة  لإدارة الضمان، كأمر تستدعيه الشفافية في ظل سوق عمل غير منظم تشريعيا بالقوانين الكافية لإنتاج ممثلين حقيقيين لجميع الشرائح العمالية وفئات أصحاب العمل.

إن مشروع قانون التنظيم النقابي الذي يضمن التعددية النقابية يمثل الحاضنة الثقافية، لحل المعضلة سواء عبر التحاق العمال غير المنضوين بعضوية الاتحادات القائمة أو عبر بلورة نقاباتهم واتحاداتهم الخاصة، ما منح الحق للمنتفعين من القانون والمستهدفين به في اختيار ممثليهم ضمن عملية ديمقراطية، يصار إلى تنظيمها وفق معايير اللجان الانتخابية لكل شريك وبإشراف من لجنة الانتخابات المركزية، التي ستناقش وتضع مع خبراء مختصين التفاصيل الفنية التي يمكن أن يشملها قانون انتخاب هيئة إدارة الضمان. وبما يضمن حق المنتفعين كهيئة عامة في الاختيار الدوري والذي يمكن أن يتم بموازاة انتخابات نقابية عامة للحركة العمالية.

إن معالجة ثغرات الواقع في حوكمة المؤسسة لا تقتصر على انتخاب الممثلين، بل تكتمل بانتخاب جسم رقابي يجسد الشراكة في مراجعة ومتابعة خطط وإنجازات المؤسسة من جهة، ومراجعة ضعف أداء ممثلي الحكومة في قيادة عملية ترويج الفكرة وخطة إطلاق المؤسسة وعدم تلمسهم للأزمة المتوقعة مع مفاصل هامة في القطاع الخاص وقيادة حراك الاحتجاج المختلط، وذلك ليتحمل الجميع مسؤولياته عن نتائج عمل هذه المؤسسة العتيدة،

ورغم ما يحمله الواقع من تعقيدات ذاتية وموضوعية ،فإن إنشاء مؤسسة الضمان الاجتماعي يبقى متطلبا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، يستحق السجال والنقاش والاحتجاج والتصحيح بما يخدم عمالنا ومستقبلهم، الأمر الذي يتطلب المساءلة عن أسباب تأخيرها لأكثر من عقدين على قيام السلطة.