تتحدد شخصية الأمم بهويتها الثقافية بشكل أساسي، والتي هي جزء من المكون العام الموروث والمكتسب للمجتمعات الإنسانية. إضافة إلى المكونات الأخرى المرتبطة بالدين والعرق واللغة والتاريخ والجغرافيا. وعلى الرغم من أهمية كافة مكونات الهوية، إلا أن المكون الثقافي هو الأقدر على إحداث التوازن وضمان ديمومة الجوهر الحقيقي لشخصية الشعوب وعراقتها، ويحمي تراثها وأصالتها، ويشكل درعاً واقياً للأمم يتيح التفاعل الجدلي الحي مع الثقافات المختلفة، وفي ذات الوقت يحمي الشخصية من الانفصال عن هويتها الأصيلة، وهذا ما يؤكده التاريخ الإنساني في أن المكون الثقافي والحضاري الفاعلين كانا دوماً يظهران في حياة الأمم.
في هذا العصر الذي شهد انهيارات للحدود بين الدول، ونشوء الشركات الصناعية العملاقة عابرة القارات، وتطور هائل في تقنيات وسائل الاتصال والتواصل، أدى إلى كسر الحواجز الفاصلة بين الدول العظمى والدول النامية، جعلت من عملية التبادل المعرفي والعلمي والاقتصادي والتجاري أمراً يسيراً.
هذا الانفتاح الكوني سوف يؤدي إلى سيادة ثقافة الأقطاب الاقتصادية العالمية الكبرى على ثقافات الأمم الأقل تطوراُ، ويجعل من أنماط الحياة الغربية تهيمن على الشعوب التي تحكمها أنظمة ما زالت تعاني من أمراض النمو، ومنها مجتمعاتنا العربية. وعولمة الرأسمال ستؤدي إلى تكدس الثروات الفاحشة بين عدد قليل من الناس، وفقر للبقية، كما أن التقنيات التي أصبح الناس ينعمون برفاهيتها تحولت إلى أسلحة فتاكة، بدأت بقضم خصوصية الفرد وأدت به إلى الاغتراب. إن الصراع بين القوى الكبرى على النفوذ والسيطرة سوف يحول القرن الواحد والعشرين إلى قرن القتل الناعم والخشن في آن.
مفهوم الهوية
تكمن إشكالية الهوية الثقافية بظني كونها تنطوي على مصطلحين هما الهوية والثقافية، وكل مصطلح منهما يعد قضية إشكالية جدلية لدى الفلاسفة والمفكرين، ويصبحان أكثر تعقيداً إن انعطفا نحو الأبعاد الدينية أو السياسية أو الأيديولوجية أو التاريخية، أو جميعهم سوية.
فيما يتعلق بمصطلح الهوية، يظن الفرد أنه يعلم ماهية الهوية، لكن سرعان ما يتفاجأ أنه لا يعرف عنها شيئاً. وذلك يعود في أحد جوانبه إلى تعدد المشارب والاتجاهات المعرفية والفلسفية لمفهوم الهوية. مثلاً مفهوم الهوية في علم المنطق مختلف عنه في علم الميتافيزيقيا أو الأنثروبولوجيا أو في علوم السيكولوجيا والسوسيولوجيا.
فقد جاء في معاجم اللغة العربية أنها البئر عميقة القعر، وللإنسان فهي تعني حقيقته المطلقة وصفاته الجوهرية. وفلسفيا فإنها تعني حقيقة الأشياء، والمكونات التي تميز شيئاً أو شخصاً عن غيره. والأنثروبولوجيا تعتبر الهوية نمط حياة، أو منظومة قيم. ثقافياً فإن الهوية عبارة عن خيال يمنح العمق النفسي والبعد الاجتماعي نموذجاً منتظماً، وتمثل تعبيراً جوهرياً للأفراد. وتتصف الهوية بحالة من التعقيد والتشابك في أبعادها وتأثيراتها، تنتج عن عملية التفاعل المتواصل بين الإنسان والمنظومة الاجتماعية التي يعيش فيها.
الفيلسوف الإنجليزي "جون لوك" يرى أن أساس هوية الفرد هو الإحساس الذي يدفع الإنسان لتحريك ذاته وبناء معرفته بنفسه على نحو دائم، فيصبح هذا الفرد هو ذاته بالرغم مما يلحق به من تغير لاحقاً.
أما الفيلسوف الألماني الإشكالي "مارتن هيدغر" اعتبر أن لكل كائن الحق في ذاته والتوحد مع ذاته، فأين يكون الفرد أو الجماعة تسمع سؤال الهوية، الذي يعتبره هيدغر إنه سؤال الوجود، فالهوية عنده هي تماثل انتماء مشترك بين الفكر والوجود.
لا شك فإن سؤال الهوية هو سؤال شائك، لأن الهوية ذان بنية تشكلها عناصر متعددة مثل الدين والعرق واللغة والجغرافيا والتراكم التاريخي من جانب، ولأن الهوية لا تتشكل ذاتياً إلا في وجود هويات أخرى مختلفة من جانب آخر، إضافة إلى السياقات التاريخية والاجتماعية التي تسهم في بناء هذه الهوية.
قد تكون الهوية عاملاً مفصلياً لتمتين تماسك روابط النسيج الاجتماعي، وقد تكون كالقنبلة الموقوتة في مجتمعات أخرى، وتحمل بين طياتها بعداً مدمراً. بعض الهويات تتقصد إقامة الجدران الفاصلة بينها وبين الآخرين لحماية نفسها من تهديد متخيل. وبعض الهويات تصاب بالغرور والنقاء وقد تتحول إلى حالة عنصرية عدوانية. في الحديث عن الهوية تستحضرني هنا مقولة الفيلسوف اليوناني "هيراقليطس" الذي قال يوماً إنك لا تستحم في النهر مرتين "، التي تعني أن الكون واحد لكن داخل وحدته يوجد التغير والاختلاف.
مصطلح الثقافة
فيما يتعلق بالثقافة كمصطلح ومفهوم، فقد جاء في المعاجم العربية أن الثقافة هي العلوم والمعارف التي تتطلب حذقاً، فحين يكون الإنسان مثقفاً يكون حاذقاً. وفلسفياً فإن الثقافة هي العلاقة الوثيقة بين مختلف المعارف والفنون والعلوم والأديان والقوانين والقيم الأخلاقية والعادات التي يكتسبها الفرد من مجتمعه. وتعتبر الثقافة واحداً من أبرز معايير تصنيف المجتمعات والأمم، نظراً لما تتضمنه الثقافة من خصائص ودلالات ذات أبعاد ذاتية وجمعية وإنسانية. وقد تنوعت وتعددت تعريفات الفلاسفة والمفكرين للثقافة. فالمفكر الإنجليزي المتخصص بعلم الأنثروبولوجيا "ادوارد تايلور" اعتبر أن الثقافة هي الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد، والفن والأخلاق والقانون، وغيرها من القدرات والمهارات والعلوم التي يكتسبها الإنسان باعتباره فراداً في المجتمع. أما عالم الاجتماع الأمريكي المعاصر "روبرت بيرستد" فيرى أن الثقافة هي ذاك المركب الذي يتضمن كل ما نفكر فيه، وكل ما نقوم بفعله أو نمتلكه كأشخاص في المجتمع.
ويعتقد بعض علماء الأنثروبولوجيا أن الحضارة هي نوع راق من الثقافة، إذ أن من خصائص الثقافة تمايزها واستقلالها عن البشر الذين يمارسونها، لأن مكونات الثقافة يكتسبها الفرد من المجتمع بصفتها إرث اجتماعي متراكم يتبلور في شكل التقاليد والعادات. ومن جهة أخرى فإن للثقافة خاصية الاستمرار وقدرتها على الانتقال عبر الزمن من جيل إلى جيل. والثقافة يمكن لها أن تلعب أدواراً مهمة في توفير مناخات إيجابية للتغيير الاجتماعي، ولها مقدرة على مساعدة البشر لفهم العالم وطبيعته وإثراء معرفتنا بهويتنا.
إذن الثقافة هي طريق معيشة البشر وما يملكون وما يتداولون فيما بينهم، وفيما بينهم وبين الآخرين على الصعيدين الاجتماعي والبيولوجي. وهي أيضاً ثقافة العقل ومجموعة القيم والعادات والسلوكيات الاجتماعية، وكذلك التراث الفكري والفني والأدبي والعلمي. هي أنماط التفكير والشعور، ومنظومة المثل الشائعة في مجتمع معين.
هكذا يمكننا القول إن الثقافة بمعناها العام عنصر هام ومقرر وضرورة لفهم الأحداث في الحياة البشرية، وكذلك أهميتها في التنبؤ بإمكانية وقوع هذه الأحداث، والثقافة تحتل مكانة في المجتمعات، تشبه المكانة التي تحتلها الجاذبية في الطبيعة.
عولمة ضد الإنسانية
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة في نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن العشرين، أطل مصطلح العولمة برأسه كمفهوم بحلة جديدة في اسمه وقديماً في ظاهرته. يسعى مفهوم العولمة الاستعماري إلى جعل العالم مدينة كبيرة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، والسيطرة على الشعوب بواسطة التكنولوجيا الحديثة لوسائل الاتصال، وأساطيل الشركات الصناعية والتجارية متعددة الجنسيات العابرة للقارات. حيث تفرغت الرأسمالية الغربية من مواجهة البروليتاريا، التي استمرت في الفترة الممتدة من انتهاء الحرب العالمية الثانية لغاية انهيار المنظومة الاشتراكية، وبدأت بمرحلة جديدة في مظهرها وأدواتها، وقديمة في مضامينها، الهدف منها هو إقامة دكتاتورية الرأسمال العالمي وأطلقوا عليها تسمية العولمة.
إن العولمة بوجهها الخيّر كانت حلماً راود خيال الكثير من الفلاسفة والمفكرين، في سياق انشغالهم بتوحيد القيم الإنسانية لخلق مجتمعات العدل والمساواة. لكن هذا الحلم وأدته مصالح الشركات العملاقة، وأصحاب رؤوس الأموال الضخمة المتنقلة، وذوي النفوذ الاقتصادي والسياسي، وكذلك الثورة التي تحققت في تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، وتطور وسائل الإعلام، كل هذه الأدوات كفيلة بقلب الدول فوق رؤوس الشعوب بهدف السيطرة عليها في عالم مفتوح اقتصادياً وثقافياً وبلا جدران.
العولمة الرأسمالية تبشر بعالم شبيه بالعصور القديمة، حيث كان البشر منقسمين إلى طبقتين، طبقة الإقطاع وهم القلة، وطبقة العبيد والأجراء والعامة وهم الأغلبية الساحقة. وتشير الكثير من التقارير الصادرة عن منظمات دولية أن النظام العالمي أغنى بخمس مرات مما كان عليه في بداية التسعينيات من القرن العشرين، فترة انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاشتراكية، لكن الأمر المفزع أن خمس سكان العالم يعيشون بدولار واحد في اليوم. وأن هذا الخمس الأكثر فقراً من سكان الكرة الأرضية كان يملك حوالي 2,5 بالمئة من الموارد المالية في بداية سبعينيات القرن العشرين، فأصبح يملك 1,6 في المئة من تلك الموارد في بداية التسعينيات. ثم انخفضت فيمة ما يملكون إلى حوالي 1,2 في المئة بمنتصف التسعينيات، ثم تقلصت النسبة إلى حدود الواحد في المئة في الألفية الثالثة.
المفارقة أن خمس سكان الأرض الأكثر ثراء كانوا يملكون حوالي 68 بالمئة من الموارد المالية العالمية في بداية السبعينيات من القرن العشرين، فأصبحوا يمتلكون حوالي 83 في المئة في بداية التسعينيات، ثم 87 في المئة في منتصف التسعينيات، ثم حوالي 90 في المئة في الألفية الثالثة.
هذا أعمق تناقض طبقي في العصر الحديث تفرزه العولمة في سياق تحولات ديمقراطية يشهدها العالم، وتشير إلى ازدياد رفاهية الاقطاع الحديث، وتحول معظم سكان الكرة الأرضية إلى عبيد، وهي بذلك تكون عولمة القهر والحرمان للشعوب والدول الضعيفة بمسميات تبادل الموارد. المرعب في الأمر أنه من المتوقع خلال هذا القرن ألا يحتاج الاقتصاد العالمي سوى 20 في المئة من القوى العاملة، فيما سيتحول ما يقدر80 في المئة من الناس إلى عاطلون عن العمل، يعيشون كفقراء على هامش العولمة.
إنه عصر تكديس الثروات في خزائن الأقلية، وعصر الإفقار والتهميش للأغلبية. في العالم حالياً حوالي 1842 مليارديراً بحسب دراسة أعدتها شركة (PwC) للإشراف الاقتصادي والخدمات الاستشارية بالتعاون مع بنك (UBS) السويسري في العام 2017، حيث أظهرت زيادة في عددهم تقدر بنسبة 17 بالمئة، حيث وصلت ثروة هؤلاء إلى حوالي 8,2 تريليون دولار، يملكون شركات تشغل حوالي 27,8 مليون إنسان على مستوى العالم. ويمتلك أغنى 20 إنسان ثروة تقدر 1,3 تريليون دولار، أي ما يعادل الناتج القومي لبلد مثل المكسيك مثلاً. فيما يمتلك حوالي 360 مليارديراً ثروة تضاهي ما يملكه حوالي 2,6 مليار نسمة من سكان الكرة الأرضية.
القرن القاتل
تميز القرن التاسع عشر باعتباره قرناً شهد الصراعات بين الأنظمة المحافظة والإقطاعية والحركات الليبرالية التحررية والقومية، التي قادتها البرجوازية. والقرن العشرين يعتبر قرن الحروب والصراعات الدموية، وقرن التحرر من الاستعمار، القرن الذي شهد التطور التكنولوجي الهائل، قرن الثورة الرقمية والمعلوماتية. فيما القرن الحادي والعشرين هو قرن عولمة الاتصالات والبيانات والرأسمال العابر للقارات دون منازع. عصر تكديس الثروات، وسقوط متزايد للملايين في قاع العوز. لكنه يشهد أيضاً بظني تصاعد لافت وفاعل للحركات المتشددة بوجهها الثقافي القومي اليميني في أكثر من مكان، وأخرى ذات ميول انفصالية.
لغاية القرن التاسع عشر كان الناس ينتقلون بحرية ويسر بين الدول، ولا تعترضهم حدود ولا مراكز جوازات سفر، وكانوا يستخدمون وسائل نقل وطرق بدائية، ويمتلكون حرية العمل والتعاقد. وفي الفترة التي شهدت الحرب العالمية الأولى، كانت الثورة الصناعية الأولى قد وصلت مرحلة متطورة، حيث تم اختراع وسائل المواصلات التي تعتمد المكننة لتحل محل الجياد والعربات البدائية، وتم كذلك وضع الحدود السياسية بين الدول. مع انتهاء الحرب العالمية الثانية كان العالم أكثر تعقيداً، حيث نشأ نظام ثنائي القطب، وتعايش العالم مع مركزين يحكمهما توازن الرعب، في واشنطن وموسكو. انتهى هذا النظام العالمي مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وبدأت تتشكل ملامح نظام عالمي جديد.
أهم ملامح هذا النظام هي العولمة التي أسهم في انتشارها الثورة التقنية والتكنولوجية الثالثة في الاتصالات والمواصلات، وثورة المعلومات التي اعتمدت على استعمال الشبكة العنكبوتية لربط مئات الملايين من البشر دون وسيط، ودون اعتراض لا من حدود ولا حواجز أمنية، ومكّنت جميع سكان الأرض من الوصول إلى المعلومات بطريقة سهلة وحرة، ليس ذلك فحسب، بل منحت الناس الفرصة والقدرة على التدخل المباشر في صناعة الأحداث والتأثير على مجرياتها وتغييرها.
مع كل هذا التطور الهائل في وسائل الحياة عموماً الذي أنهى عصر الجُزر المتناثرة، وأرسى مرحلة التداخل والتشابك والتبادل في العلاقات والمصالح والمعارف. لكن السؤال الأهم هنا، هل جعل هذا التطور الناس في وضع أفضل وعلاقات أجود ومعيشة أثرى؟ الإجابة كما أتلمسها هي بالطبع لا.
إن كافة القفزات العلمية التي حققتها البشرية عبر العقود المتتالية، ورغم التقدم التكنولوجي، إلا أن هذا لم يتمكن من القضاء على الجوع والفقر، ولا التخفيف من حدة الصراعات والحروب، بل على العكس جعلتها أكثر دموية وهمجية بسبب التطور في صناعة الأسلحة المدمرة. وكل التطور بتقنيات وسائل الاتصال لم يستطيع إنهاء الكوارث والأزمات العالمية، بل أن جشع الإنسان المعاصر قد يدمر النظام العالمي- الأزمة المالية العالمية في العام 2008- وظاهرة التغير المناخي-.
كل التقنيات المعلوماتية، والثورة الرقمية التي اجتاحت حياتنا لم تقدر على وقف الخوف والقلق السائدان لدى البشرية. بل لقد تعاظمت الأزمات العالمية، وأصبحت قضايا الأمن الوطني والقومي، والتعايش بين الحضارات والأديان والأعراق والطوائف والمذاهب، هي أزمة الأزمات المعاصرة.
كذلك نلاحظ أن التطور التقني في كافة مناحي الحياة لم يتم توظيفه لسعادة ورخاء البشرية. بل على النقيض أصبح الإنسان المعاصر يفقد مقدرته في السيطرة على واقعه ومصيره وخياراته، التي تتحكم بها نظم مركزية ووسائل الإعلام الحديثة ومصالح الشركات الكبرى.
أصبحت الحواجز السياسية أعلى مما سبق، والتجمعات القومية تبحث عن حماية نفسها بسدود متعددة. ضاقت المسافات وتزايدت القيود على النقل والتنقل، بحيث أصبح البشر يشعرون أن كافة المكاسب التقنية التي تحققت عبر العقود الأخيرة أخذوا يفقدونها بفعل القرارات والقوانين الإدارية، وصار البشر يبحرون في محيط بلا شواطئ وبلا بوصلة.
كل هذا التطور في الألفية الثالثة أفضى إلى أزمات عميقة للإنسان المعاصر، الذي أصبح أكثر ضعفاُ وهشاشة، وقابلاً للعطب أكثر من أي وقت مضى، رغم رفاهية الأشياء بظاهرها من حوله. لقد أصيب الإنسان بأزمات مرتبطة أساساً باختلال التوازن الذي أصيب به، وفقد معه القدرة على التكيف الثقافي والبيولوجي مع واقعه، لذلك نقول إن الاغتراب والقتل والإفقار والثراء الفاحش هم سمات العصر.
تحديات أمام الثقافة العربية
بات مؤكداً أن العولمة بصفتها انفتاحاُ كونياً تتسبب في تهميش الثقافات الوطنية، وإحلال ثقافة القوى الكبرى، وهيمنة الرأسمال الاستعماري. وعلى الرغم من أصالة الثقافة العربية وجذورها وامتدادها، إلا أنها من دون ريب تواجه تحدياً كبيراً في التقليل من حجم الخسائر التي تلحق بثقافتنا، وهي مسؤولية المثقفين والمفكرين والأدباء العرب بصورة أساسية، كونهم نبض الأمة الباقي في مشهد الحالة العربية التي وصلت مقداراً وضيعاً من الانحدار والسقوط.
الثقافة العربية وصلت سابقاً إلى مشارق الأرض ومغاربها، والتقت الحضارتين العربية والغربية في الأندلس بداية، ثم حملها معهم المهاجرين العرب إلى دول أمريكا اللاتينية. وحين نتحدث عن أهمية مواجهة المحاولات التي تجري لتهميش ثقافتنا، في ظل التحولات العالمية المستمرة، فهذا لأننا نمتلك خصوصية وعلينا إبرازها للآخر الغربي، وهذه الرؤية لا تتصادم مع الخطاب الكوني، ذلك أن الحضارة هي مكون عالمي، بينما الثقافة هي مكون خاص.
لكن وزارات الثقافة العربية والهيئات والمنظمات الثقافية في الواقع العربي تتعاطى مع الثقافة ببعدها الوظيفي الروتيني، وليس باعتبارها مؤشراً هاماً يعكس حركة المجتمع المرتبطة به عضوياً، فالثقافة تحدد كينونة وصيرورة الأمم اجتماعياً وسياسياً. حتى الأطر الثقافية العربية غير الرسمية عاجزة عن إحداث أي تغيير جدي، فهي ساقطة في مستنقع الصراعات الداخلية والتنافس على الزعامة، والحسابات الضيقة ومشاكل التمويل، وتلاحظ حضور كل شيء في هذه الأطر إلا الثقافة، فهي الغائب الوحيد.
هذا على الرغم من أن معظم المفكرين يؤكدون على أن الهويات الثقافية سوف تكون صاحبة الكلمة الأولى في القرن الواحد والعشرين، وأنها المحرك الرئيسي للأحداث السياسية مستقبلاً. إذ أن الهوية الثقافية حلت مكان الهويات الطبقية والقومية والاقتصادية، في الفترة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة.
إن تكنولوجيا المعلومات والثورة الرقمية هما أهم دافع للعولمة الثقافية، لأنهما يختزلان الزمان والمكان في التبادل المعلوماتي والمفاهيم والمعارف والعلوم. وكما العولمة الاقتصادية وعولمة رأس المال اللذان يقتحمان الأسواق الناشئة دون أن تتمكن الحكومات الوطنية من فرض سيطرتها على الأسواق ومراقبتها، فإن العولمة الثقافية تقتحم المجتمعات البشرية وتهدد خصوصيتها. وهي أدت فعلا إلى انتشار الكثير من المظاهر التي لا ترتبط بالهوية الثقافية العربية، لعل أبرزها بظني هي انحسار اللغة العربية لصالح انتشار اللغات الأخرى -رغم فائدة تعلم اللغات الأجنبية بالطبع-، إضافة إلى تحول الثقافة العربية إلى وسيلة للكسب والتسلية، وإثارة الملذات الحسية والغرائز، على حساب المضامين الجادة والرزينة. كما أن العولمة الثقافية أسهمت بصورة فعالة في تراجع دور القيم المجتمعية، ودور العائلة في حياة الفرد، وحولت مجتمعاتنا إلى أسواق استهلاكية نهمة.
لا مفر من الإصلاح
مطالعة التاريخ تعلمنا أن هناك شعوباً وأمماً شنت الحروب الدموية لأسباب تتعلق بالهوية والعرق، والانتماء إلى أمة دون سواها أمراً بالغ الأهمية وحيوياً بالنسبة للبشر، ذلك أن الثقافة تعبير عن الهوية والكينونة والشخصية التي تميز أمة ما عن سواها، حيث تتشابك مكونات الهوية بالثقافة الوطنية بالجغرافيا والتاريخ واللغة والدين ليصبغا سمات أمة محددة. فالهويات الثقافية تحتل مكانة بارزة في السياسات الدولية، لأنه تشكل اساس الدولة والأمة.
من هنا يمكن إدراك أهمية البعد والعمق الثقافي الذي يحدد صورة الدول في المستقبل، ولا يمكن الحديث عن تطوير الإنسان العربي وتقدمه حضارياً وتحديث وعيه، دون اهتمام الدول العربية بالثقافة ذات الابعاد المتنوعة والمتعددة.
وهذا لا يتم إلا بأن نكون أصحاب مشروع ثقافي نهضوي إصلاحي تجديدي ليبرالي تنويري، يراعي خصوصيتنا، ويشرع النوافذ للتفاعل الإيجابي مع ثقافات الشعوب والأمم الأخرى، التي تؤمن بالتعايش الإنساني والحوار الحضاري بصورة متكافئة، بعيداً عن الهيمنة والتسلط.
* كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك