يخطر ببالنا مثل غيرنا أن فرنسا تعود من جديد لدورها بصفتها صانعة القلاقل والثورات الكبيرة في العصر الحديث. فرنسا خاصرة النظام الرأسمالي الرخوة. وفرنسا على ما يبدو تظل عصية على التطويع النهائي، عكس الحال الذي يسود في أمريكا وبريطانيا، وبدرجة ما ألمانيا. يجب أن نتذكر أن فرنسا لم تكن قلعة رأسمالية مغلقة في أي وقت. ونتذكر ولو مع طيف ابتسامة مشاركة السعودية في وقت قريب جداً هو مطلع الثمانينيات من القرن العشرين في تبرعات سخية من أجل مواجهة احتمال أن يفوز الحزب الشيوعي بالسلطة.
الناس في فرسنا تستطيع أن "تنشق" على التقاليد السياسية القائمة في نطاق "المعارضة والموالاة" على السواء" وتستطيع أن تهدد النظام من أساسه. لذلك فرنسا تستطيع أن تكون ثورية، وتعيد لحلم الثورة في "شمال" العالم ألقه وراهنيته على الرغم من جهد دريدا وفوكو للقول بان الواقع غير قابل للتجاوز أو الثورة.
ماذا يجري اليوم بالضبط؟ قررت قوى الرأسمالية الفرنسية المنتشية بانتصارات اليمين في كل مكان بما في ذلك فرنسا البدء بالهجوم الليبرالي على طريقة واشنطون ولندن. وهكذا تقرر زيادة الضرائب على النفط لدعم الخزينة على حساب الغذاء والمواصلات والسلع والخدمات التي تقدم للفئات الأقل دخلاً. لكن هذه باريس "الخبيرة" بالثورات. بدون أية متاهات في مستوى الشعارات، انطلق منظمو الاحتجاجات خارج نطاق المؤسسة السياسية "الشائعة" يمينا ويساراً ليعلنوا في حزم رفضهم لرفع أسعار المحروقات مثلما مطالبتهم بوقف الزحف الليبرالي الجديد على مكتسباتهم السابقة.
"تورط" ماكرون قصداً، وهو "ربيب" آل روتيشيلد في أنشطة عسكرية واقتصادية تخدم النخبة على حساب ميزانية البلاد. وقد أدى ذلك إلى ديون تقترب من 2000 مليار دولار، أو ما يزيد على الدخل القومي لفرنسا ذاتها. ومن أجل مواجهة أزمة الديون كان لا بد من رفع الضرائب على الناس ليقوموا –كالعادة- بدفع الفاتورة نيابة عن الأغنياء. اضطر ماكرون إلى زيادة الإنفاق على التسلح ارضاء لرغبات ترامب المسعورة، وهو ما أدى إلى إفلاس خزينة الرجل . إن ضغط ترامب الجنوني من أجل إنقاذ الولايات المتحدة من فقدان الهيمنة الكونية يخلق شروطاً ثورية غير مسبوقة منذ نهاية الحرب الكبرى في العام 1945.
قد ينضم الطلبة اليوم لانتفاضة السترات الصفراء، وهو ما سيعطيها بالتأكيد زخما كبيرا. وسوف يحاول ماكرون بالطبع أن يهدئ الجماهير الغاضبة، ولكن التهدئة تحتاج إلى "تضحيات" من رأس المال تسمح بتخفيف الضغط عن الفقراء. لا أحد يعرف كيف تتجهة الأمور بعد تصاعدها. لكننا نعرف شيئاً مؤكداً هو أن الهدنة في الصراع الطبقي في شمال العالم قد انتهت بالفعل. وقد عاد ذلك الشمال إلى النشاط بعد أن دخلت الصين على خط المنافسة الشديدة بما يجبر النخب الرأسمالية على تشديد قبضتها في الداخل من أجل تحقيق الأرباح التي لم تعد قادرة على تحقيقها في الخارج.
حاشية: وأنا أتابع ما يجري في فرنسا، خطر ببالي التعبير الشائع "النزام وشبيحتو". لكن أحداً من خبراء الإعلام العرب لم يصف قوات قمع الناس الفرنسية بالشبيحة، كما أن أحداً لم يطلق على نظام ماكرون خادم المصالح النخبوية الرأسمالية بأنه "النزام". تظل "النزام وشبيحتو" وصفاً حصرياً للدولة السورية دون غيرها التي ساهم "نزام" ماكرون بتغذية الهجوم الإرهابي ضدها.