في مثل هذه الأيام من العام 1987 تململت البلاد فكانت انتفاضتها المقدسة، وبجملة واضحة لا تحتمل التأويل، إنّ شعباً تحت الاحتلال رأى شمس حريته فسعى خلفها واثقاً.
اليوم بينما كان فتية البلاد يشعلون حناجرهم في تأبين شهداء فلسطين، أسطورة الزمن الغارق بالوهم، عادت الجملة مرة أخرى إلى وضوحها .. ورأى أبناء البلاد الشمس ذاتها ولن يكفوا عن سعيهم خلفها .. هكذا قالوا.
موضوعيا، الكثير من الكلام يقال حول مقدرة الاحتلال على الوصول إلى الشهداء، ويسعى الاحتلال بكل ما لديه من امكانيات إلى حماية "مقولته الرادعة" أو صورته التي يعمل على تعزيزها بأن يده الطولى، وأنه القادر على تصفية كل من يتعرض لأمنه، والحقيقة أن الاحتلال لم يستطع خلق هذا الوعي في عقل الفلسطيني، ولم ينجح في بث الخوف في النفوس، فها هم في اللحظة التي تصل فيها يده الاثمة الى أحدهم يشعل آخر روحه في مكان آخر، ولذا يفرض السؤال الواقعي نفسه: هل استطاع الاحتلال بقوته، وآلته العسكرية، وتجريده للوجود السياسي من مضمونه أن يردع وعي الفلسطيني؟ أو أن يصرف الفلسطيني عن شمسه الاساس؟
الجواب الواضح هو النفي، لا لم يستطع.
إن الهتاف المتقد في حناجر المشيعين، لا يعكس انكسار روحهم المعنوية، وهتافهم للشهداء الذين باتوا يشكلون القدوة، والمثال الذي يحتذى به، وتوالي الاخبار عن وقوع عمليات أخرى مشابهة بنفس الوقت الذي تهتف فيه الحناجر للانتفاضة انما يعني أن ثمة وَقعا ماسيّا، ساحرا لكلمة الانتفاضة في النفوس المتعطشة للحرية.
ما يجري الان في غزة، وما يجري في الجنوب اللبناني، وما يجري في الضفة الغربية يعني قولا واحدا، أن انهيارا قادما لا محال في جملة التسوية والحلول المخملية، وأن جملة النار هي الأكثر صدقية وقربا لأرواح أبناء الارض المحتلة.
ربما يصفني أحدهم بالمبالغة إن قلت أن البلاد على وجه انتفاضة واسعة وإن بدّلت بعض ادواتها، وإنني أرى الحرية تقرع الأبواب، وفي سعيهم إلى الحرية أرى الشهداء، أحمد جرّار، أشرف نعالوه، صالح البرغوثي ورفاقهم كأنهم عدّاءون في مضمار البلاد يسلم أحدهم شعلة الحرية للآخر، وهم ينشدون:
سِرْ وقاوم
للقدس عاصمة العواصم
واخلع رداء الذل عن لغة الخطابِ
فلن تحرركَ المراسم
كن ثائرا،
واتبع شعارات الملثّم،
والمخيمْ
. . لا تساوم
قُمْ وقاوم