تدين إسرائيل للفلسطينيين بالكثير على دورها في المأساة المتواصلة التي لا تزال تتسبب بها. فبحسب تقرير صدر مؤخرًا عن وضع الاقتصاد الفلسطيني، تقدَّر الخسائر المالية التي تتكبدها الحكومة الفلسطينية جرّاء القيود الإسرائيلية المستمرة والازدراء الفاضح بالاتفاقيات الموقّعة بحوالي 350 مليون دولار في السنة (ما يعادل 29.2 في المائة تقريبًا من العجز المتوقع في موازنة الحكومة الفلسطينية للعام 2018). والأشخاص العاديون، أمثالك، المكلّفون بدفع الضرائب في كل أنحاء العالم، يدفعون ثمن التعديات الإسرائيلية.
لقد آن الأوان أن تسدد إسرائيل الديون المستحقة عليها، لأن هذه مجرد البداية!
يجتمع المانحون الذين يدعمون الحكومة الفلسطينية (السلطة الفلسطينية) بانتظام لتحديد الطريقة المثلى لدعم الفلسطينيين ماديًا، وهذه اللجنة المؤلفة من 15 عضوًا برئاسة النرويج وبرعاية مشتركة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تدعى لجنة الارتباط الخاصة، وتمثّل هذه اللجنة الآلية الرئيسية على مستوى السياسات لتنسيق المساعدات الإنمائية للشعب الفلسطيني.
ولولا هذا الدعم من الجهات الأجنبية المانحة لما كانت الحكومة الفلسطينية التي نعرفها موجودة.
حمل التقرير الأخير الذي رُفع إلى لجنة الارتباط الخاصة عنوان "وقف التسرب المالي"، وهو يعادل استدعاءً للجانب الإسرائيلي لمطالبته بدفع ثمن الضرر المالي الذي يسببه للفلسطينيين.
إليكم نظرة خاطفة على الخسائر السنوية المقدرة بـ350 مليون دولار:
التسرب الناتج عن انعدام السيطرة على الضفة الغربية
بناءً على الاتفاقيات المبرمة، يحق للحكومة الإسرائيلية أن تفرض وتحصّل ضريبة على القيمة المضافة وضريبة الدخل فضلاً عن اقتطاع رسوم من دخل الشركات الإسرائيلية المستحق أو المجني في ما يعرف بالمنطقة "ج"، أي المنطقة الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية الكاملة في الضفة الغربية والتي تشكّل ما يزيد عن 60 في المائة من مساحة الضفة الغربية. ويقدّر التقرير بأن حوالي ألفي شركة وشخص من حملة الجنسية الإسرائيلية يعملون حاليًا ويكسبون دخلهم من المنطقة "ج"، ومنذ حوالي العام 2000 أوقفت الحكومة الإسرائيلية كافة التحويلات الضريبية وتوقفت عن إخطار السلطة الفلسطينية بالأنشطة التجارية الإسرائيلية التي تجري في المنطقة "ج". واليوم تصل الضرائب والرسوم المتراكمة غير المدفوعة من المنطقة "ج" منذ العام 2000 إلى 360 مليون دولار تقريبًا.
التسرب الناتج عن رسوم مشتريات الوقود
تستورد فلسطين الوقود بواسطة الشركات الإسرائيلية منذ العام 1994. ويفيد التقرير المذكور أن الحكومة الإسرائيلية حوّلت أموال ضريبة المكوس الخاصة بمشتريات الوقود إلى السلطة الفلسطينية بين العامين 1994 و1996، ولم تقتطع رسوم خدمة نظرًا لغياب الإجراءات الإدارية اللازمة. ولكن اعتبارًا من العام 1996، بدأت الحكومة الإسرائيلية بفرض رسوم خدمة إضافية بنسبة 3 في المائة. ويقدّر التقرير بأن السلطة الفلسطينية تخسر حاليًا نحو 26 مليون دولار سنويًا نتيجة اقتطاع الحكومة الإسرائيلية رسوم الخدمة على مشتريات الوقود.
التسرب الناتج عن الواردات غير المباشرة
تمنع إسرائيل الفلسطينيين من الوصول مباشرةً إلى العالم الخارجي، ولهذا إنهم مرغمون على استخدام المرافئ الإسرائيلية لاستيراد السلع والمعدات. وإسرائيل ملزمة بتحويل كافة ضرائب الاستيراد وغيرها من الضرائب التي تحصّلها على السلع المستوردة مباشرة أو تلك التي تقع وجهتها النهائية ضمن نطاق صلاحية السلطة الفلسطينية. ولكن التقرير يشير إلى أن نسبة كبيرة من السلع التي تدخل الأسواق الفلسطينية من إسرائيل هي سلع مستوردة في الأصل إلى إسرائيل من قبل مستوردين إسرائيليين بنيّة بيعها لاحقًا في الأراضي الفلسطينية. وبالنتيجة، تحصل الحكومة الإسرائيلية على ضرائب الاستيراد المفروضة على هذه الواردات مع أنها مخصصة للبيع في الأسواق الفلسطينية. ويقدّر التقرير بأن هذا الإجراء الإسرائيلي يكلّف السلطة الفلسطينية رسومًا جمركية تبلغ قيمتها حوالي 30 مليون دولار سنويًا.
التسرب الناتج عن ضرائب المغادرة عند السفر
استنادًا إلى الاتفاقيات المبرمة التي تحدد كيفية إدارة حركة عبور الحدود الدولية المتاحة للمواطنين الفلسطينيين، يحق للحكومة الإسرائيلية تحصيل رسوم المغادرة عند السفر وتبلغ قيمتها 26 دولارًا من كل شخص يغادر أراضي السلطة الفلسطينية، في حين يحق للسلطة الفلسطينية تقاضي 12 دولارًا عن كل مسافر لأول 750 ألف شخص يعبر الحدود و16 دولارًا عن كل مسافر بعد ذلك. بيد أن التقرير يفيد بأن الحكومة الإسرائيلية تحوّل هذه الرسوم المستحقة لصالح السلطة الفلسطينية بشكل متقطع ومجتزأ، وقد قامت الحكومة الإسرائيلية علاوةً على ذلك وبشكلٍ أحادي برفع رسوم المغادرة عند السفر لتصل اليوم إلى 43 دولارا، ويذكر التقرير أن الخسائر المتراكمة التي تتكبدها السلطة الفلسطينية جرّاء امتناع الحكومة الإسرائيلية عن تسليمها كامل رسوم المغادرة عند السفر تصل إلى 145 مليون دولار منذ عام 2008.
التسرب بسبب فشل آلية ضريبة المقاصة للضريبة على القيمة المضاف
تخضع التجارة الثنائية بين الشركات الإسرائيلية والفلسطينية للضريبة على القيمة المضافة بالمعدل المعتمد في السوق الذي تباع فيه البضاعة، وتعود هذه الأموال لصالح مصلحة الضريبة المسجل فيها الشاري. ومع أن وزارة المالية الإسرائيلية تحصل على نسخ عن الفواتير من الباعة الإسرائيليين، إلا أنها لا تكشف عن هذه المعلومات إلى السلطة الفلسطينية. وتتسبب هذه الممارسة الإسرائيلية بخسارة يقدّرها التقرير بنحو 120 مليون دولار.
نشوة السلطة
كما سبق وأشرنا في مطلع المقال، هذه مجرد البداية.
فالحكومة الإسرائيلية منتشية بالسلطة والرئيس ترامب يصفّق لها، ولكن الوضع لن يبقى على هذا الحال. في مرحلة ما في المستقبل، ستدفع إسرائيل مليارات الدولارات لتعوّض الفلسطينيين، وخصوصًا اللاجئين منهم، على المأساة التاريخية التي أوقعتها بهم. وبوسعي تصوّر عدة دول وشركات أخرى تدفع مستحقات عليها بفعل تورطها هي أيضًا.
ولا يمكنني التنبؤ بالوقت الذي ستدفع فيه إسرائيل ديونها بالكامل، ولكن فيما كنت أكتب هذا المقال، صادفت خبرًا جاء فيه أن المؤسسة الوطنية الهولندية لسكك الحديد بصدد تشكيل لجنة (في العام 2018) للبحث في كيفية دفع التعويضات عن دورها في الجرائم التي ارتُكبت بحق اليهود في الحرب العالمية الثانية، وذلك بعد أن قدّمت المؤسسة المذكورة اعتذارًا علنيًا عام 2005 عن دورها في هذه الجرائم. من الواضح أن الوقت لا يمحو الآثام المهولة.
وبالفعل كان مارتن لوثر كينغ الابن محقًّا في قوله إن "قوس العالم الأخلاقي طويل ولكنه ينحني نحو العدالة". ولكنه لا يكتفي بالانحناء بل يلتف في دائرة كاملة ليعود ويلاحق المسؤولين عن الظلم الذي ارتكبوه إلى أن يضطروا إلى إظهار ندمهم ماديًا بطريقة أو بأخرى.
# سام بحور محلل سياسات لدى موقع : شبكة السياسات الفلسطينية"
عضوالأمانة العامة لـ"مجموعة فلسطين للتفكير الاستراتيجي"
رئيس مجلس إدارة منظمة "أمريكيون من أجل اقتصاد فلسطيني نابض"